الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - إيمان و جهاد

هویة الکتاب

تاٴلیف : طالب علي الشرقي

الامام علي بن أبي طالب (علیه السلام) - إيمان و جهاد

إيمان و جهاد

النجف الاشرف

1434ه-

2013م

موسسة مسجد السهلة المعظم

ص: 1

الإهداء

إلى من ذكرُه عبادة والإنتساب إليه سيادة

أمير المؤمنين ووصي سيد المرسلين (صلی الله علیه و آله وسلم) الإمام علي بن أبي طالب (ع)

أُهدي صادق مشاعري وعربون خلاصي ....

المؤلف

طالب علي الشرقي

النجف الاشرف

1434ه-

2013م

ص: 2

المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أهل بيته خير البريّة....

إستجابة لرغبة جامحة تدفع باتجاه العوم في سواحل بحر الوصي أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) , والتزود من طيّبات فضائله , شرعت بقراءة الأسفار ومراجعة ما تيسَّر من عطاء المبدعين , ألقطُ حبة من هذا البيدر , وأقطف زهرة من ذلك الحقل واتبع بعض ما يوصلني الى لثم أعتاب ملكوت أمير الانس والجان , مالك ناصية العلم والفقه والبيان , إمام المتقين وسيد المجاهدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

ومما لا يختلف عليه العارفون هو : إنّ الاحاطة بشخصية الامام علي (عليه السلام) ضرب من المستحيل , فكم من الكتّاب والباحثين , علماء وأدباء ومفكرين , صرفوا ما وسعهم من الجهد والوقت للوصول إلى ما يحقق أمانيهم , فلم يظفروا الاّ باليسير , ولعل الأديب الكبير ميخائيل نعيمة كان أشجع في إعترافه وصراحته بهذا المجال حيث يقول : (( إنّه يستحيل على أي مؤرخ أو كاتب , مهما بلغ من الفطنة والعبقرية أن يأتيك حتى في الف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الامام علي ))(1) ومع ذلك فإن الحديث عن أمير المؤمنين لم ينقطع , ولم يكن مقصوراً على فئة أو طائفة أو على أهل دين دون غيرهم , فقد امتلأت مكتبات الدنيا بالأطاريح والدراسات والموسوعات ,

ص: 3


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص 12 .

لمختلف الباحثين كلٌ يتناول ما يحلو له من قطوف جنّة الولي (عليه السلام) أو يفتح نافذةً لتنير طريق المتلهفين من محبّي العدل والحق , وإني أجد الحديث في علي (عليه السلام) حلواً وممتعاً ونافعاً حتى لوكان مكرراً فهو عندي مثل الصلاة التي يكررها المسلم خمس مرات يومياً فلا يمل ولا يحس إلاّ بطراوتها وجدّتها على لسانه وسمعه ومشاعره , ومع ذلك تحاشيت الاسهاب بالتفاصيل .

لقد توخيت من استعراض حياة أمير المؤمنين وسيرته , التزوّد بأنوار هديه , والإقتداء بجميل فعله , والتعبد بلطيف قربه من الله ورسوله فأنا ممن شُغف بحبه , وتعلق بولايته وآمن بكامل وجدانه ولبّه بإمامته . ولا أدعي أنني سوف أصل إلى أبعد مما وصل إليه غيري فليس ذلك هدفي بل ليس ذلك بمقدوري , ويكفيني أنني أفرح حين أقف على معلومة تكشف لي جانباً من تفرد أمير المؤمنين (عليه السلام) ويسعدني رأيٌ أقرأه لمنصفٍ يزيد من معرفتي بسيّد الوصيين , ولقد قنعت بالوصول إلى ما يرضيني قبل أن يرضي غيري , لأن غَايتي أنْ أحس بحرارة الولاء تملأ قلبي وجوارحي .أسأل الله السداد والقبول وطيّب المحصول , وهو حسبي.

طالب علي الشرقي

النجف الأشرف

1434ه- 2013م

ص: 4

التعريف بنشأة الإمام (عليه السلام)

الولادة :

في مصادر التاريخ الأنسانيإشارت للولادات المتميّزة كولادات الأنبياء والصالحين , وذوي الجاه والسلطان , ولكن : لم يكن لأي واحد منهم امتياز في المكان الذي تتم فيه الولادة , ربما لاتفاقها على الصفة التقليدية , فقد تكون في المنازل أو في اماكن أخرى عفوية أو اضطرارية , قال تعالى في ولادة السيد المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) : «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)»(1) ولم يرد في السابقين خبر لمسقط راس متفرّد في القدسية كالبيت الحرام مثلاً إلاّ لعلي بن أبي طالب , وكانت ولادته (عليه السلام) فيه وحده , لأن الله تبارك وتعالى أراد له أن يفتح عينيه أولاً في جوف الكعبة , في مركز القداسة الأول على الأرض , فيسجل أول تفرد في مراحل حياته المستقبلية المنذورة لله ولرسوله ولرسالة الاسلام . ففي رواية شعبة عن قتادة عن أنس عن العباس بن عبد المطلب , ورواية الحسن بن محبوب عن الصادق (عليه السلام) : ... أنه انفتح البيت من ظهره , ودخلت فاطمة – بنت أسد – فيه ثم عادت الفتحة والتصقت , وبقيت فيه ثلاثة ايام .(2)

وتولت العناية الالهية ولادته ورزق أُمه حتى خرجت به ليكون آية من آيات الله العظمى والاساس المتين الذي تنهض عليه جزئيات النصر المؤزر لدين الله

ص: 5


1- سورة مريم , الآية 22 , 23 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب , 2 : 174 – 175 .

الجديد الاسلام الخالد . وكانت ولادته (عليه السلام) في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل .(1)

التسمية :

ذكر الاصفهاني : أن أُمه سمته حيدرة .. ويدل عليه خبره في يوم فتح حصون خيبر , وقد برز إليه مرحب اليهودي وهو يقول :

قد علمت خيبر إني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرَّب

فبرز إليه عليّ (عليه السلام) وهو يقول :

أنا الذي سمتني أُمي حيدره *** كليث غاب في العرين قسوره(2)

وورد أن أبا طالب وفاطمة بنت أسد وعليٌ على صدره , خرج إلى الأبطح ونادى :

ياربياذا الغسق الدجيّ *** والقمر المبتلج المضيّ

بيّن لنا من حكمك المقضيّ *** ماذا ترى في إسم ذا الصبي؟

وجاء الرد ...

خصصتما بالولد الزكي *** والطاهر المنتجب الرضي

فاسمه من شامخ عليّ *** عليٌ اشتق من العلي(3)

ص: 6


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص 14 .
2- مقاتل الطالبيين ص 14 .
3- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 174-175 ( والله أعلم ... )

نسبهُ :

إنّ من بين إهتمامات العرب الكبرى التي تبنى على أساسها بعض مفاخراتهم الاعتزاز بالأنساب والأصول العريقة . ومع وجود التنافس الحاد بين القبائل بهذا المعنى إلاّ أنّ القبيلة التي يكتنفها العز والسؤدد سواء في الجاهلية أو في الاسلام هي قبيلة قريش . فلو بدأنا ب- ( لؤي ) من قريش فالرفعة له ولبنيه , ولؤي أبو ( كعب ) العالي المقام , وأبرز خلفه ( مرّة ) وإبنه ( كلاب) الباذخ المجد . يقول الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا

ومن بعد كلاب ( قصي ) ونجله ( عبد مناف ) ثم إلى ( هاشم ) الذي صار علماً وإسماً رفيعاً لبنيه من بعده وعلى رأسهم ( عبد المطلب ) زعيم قريش في الجاهلية وصاحب السقاية والرفادة .(1) ومن أبناء عبد المطلب ( عبد الله ) والد رسول الله محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) و ( أبو طالب ) والد عليّ ولي الله (عليه السلام) . وهما العلمان اللذان اختارهما الله تعالى ليشرق بهما الدين بعد أفول وتحيا بهما القيم ومكارم الأخلاق ,ويختم بمحمد (صلی الله علیه و آله وسلم) رسالاته ويجعل علياً وأولاده المعصومين إمتداداً للنبوّة وحججاً على عباده .

ص: 7


1- السويدي / سبائك الذهب ... ص63 وما بعدها .

علي (عليه السلام) في بيت والديه :

دعنا أولاً نلقي نظرة سريعة على أسرة الإمام علي (عليه السلام) (( والده , ووالدته )) وكيف كانا الكافلين والمربين لرسول الله محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) . ثم نقف على ما حصل عليه إبنهما في السنوات الأولى من حياته بينهما .

فأبو طالب (عليه السلام) هو عبد مناف بن عبد المطلب الهاشمي القرشي , غلبت كنيته إسمه , ويلقب بشيخ البطحاء , وهو الأخ الشقيق لعبد الله بن عبد المطلب والد ألرسول محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) . ساد قومه وهو فقير على غير العادة . وكان سيد مكة , تحترمه قريش وتهابه , وتنقاد لزعامته . نشأ في بيت سيد العرب عبد المطلب وتزوج كريمة قومها فاطمة بنت أسد فانجبت خيرة الرجال ( طالب وعقيل وجعفر وعلي (عليه السلام)) .

ويوم كان الشرك وعبادة الأوثان سائدة في مكة , كان بيت عبد المطلب يؤمن بالتوحيد والحنيفية , يشهد له موقف عبد المطلب من جيش إبرهة , الموقف المشهور في تاريخ مكة , وقول عبد المطلب : (( للبيت ربٌ يحميه )) .

ياربلا أرجو لهم سواكا *** يارب فامنع منهم حماكا

وكان أبو طالب صورة طبق الأصل من أبيه عبد المطلب في العقيدة والايمان (1).

ص: 8


1- عبد الحليم مرزة / أبو طالب سيد المؤمنين ص50-53 .

ويدخل في عالم مكة ومستقبلها مولدُ النور الأعظم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي لم ير أباه , كما أنه فقدَ أمّه وهو في السادسة من عمره الشريف فكفله جده عبد المطلب , وحين أُحتضر عبد المطلب للموت دعا أبا طالب وخصّه دون سائر أبنائه بكفالة محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ورعايته , علماً بأن أبا طالب كان أشد اخوته عوزاً واكثرهم بنيناً , ولم يكن اختياره عفوياً بل أنّ عبد المطلب يعرف أبناءه واحداً واحداً ويدرك من حقيقتهم ما بدا وما خفي (1).

وفي بيت ابي طالب نال محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) كل الرعاية والحنو من زوجة أبي طالب فاطمة بنت أسد , حتى أنها كانت تفضله على أولادها , وكان يناديها أُمّي . أما عمه أبو طالب فكان عطفه عليه لا حدود له , ولم يفارقه, ويصحبه معه في سفره , وهو الذي زوّجه من خديجة بنت خويلد .

في هذه الفترة من عمره الشريف كان أبو طالب قدوته الأولى , وقد أكتسب منه أفضل الصفات وأجّل المكرمات من أخلاق العرب السامية كالصدق والأمانة والعفّة والشهامة والثبات على مبدأ الحق والايمان الوجداني بالخالق الواحد .

وفي هذا البيت أيضاً تلقى علي بن أبي طالب (عليه السلام) مبادئ التربية وحسن الرعاية من أسرة الهمها الله تباركوتعالى ما أراد لنبيه ووليّه من فاضل الأخلاق وخالص الاستقامة , فإن أبا طالب ساد قومه بحسن الخلق فهو لم يعرف الفسق والكذب والبخل والجبن والغدر والفجور التي كانت منتشرة في عصره , وأخلص في رعايته لمحمد (صلی الله علیه و آله وسلم) قبل البعثة وبعدها , ولم يسجّل

ص: 9


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية – علي وحقوق الآنسان 1 : 64 .

التاريخ لحظة واحدة من ضعف أو تردد في نصرته والدفاع عنه حد سل السيوف . وهذا أصدق مؤشر على أن الله الذي إختار خير خلقه رسولاً إختار خير خلقه كافلاً وناصراً له , عمه أبا طالب . ومهما حاول رهط أبي سفيان من الطعن بايمان أبي طالب فان الله والعقل والوقائع التاريخية الثابتة تدحض أقوالهم وترد كيدهم إلى نحورهم . ففي (( نهاية الطلب وغاية السؤل في مناقب آل الرسول )) لفقيه الحنابلة ابراهيم بن عليبن محمد الدينوري باسناده عن طاووس عن ابن عباس في حديث طويل : أن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال للعباس (رضی الله عنه) إنّ الله أمرني باظهار أمري ... وذهبنا إلى أبي طالب فعرّفه العباس ما قال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وما أجابه به العباس , فنظر إليه أبو طالب وقال له : أُخرج ابن أخي فانك الرفيع كعباً والمنيع حزباً والأعلى أباً , والله لا يسلقك لسان الاّ سلقته السن حداد , والله لتذلنَّ لك العرب ذلَّ البهم لحاضنها , ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ولقد قال : إنّ من صلبي لنبياً لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به , فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

قال الشيخ الأميني : أترى أن أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئناً به لينشّط رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) هذا التنشيط لأول يومه ... أتراه سلام الله عليه يأتي بهذه كلها ثم لا يؤمن به ؟ إنْ هذا الاّ اختلاق .(1)

ومن دلائل أيمانه (عليه السلام) قوله حين همّت قريش بقتل رسول الله :

والله لن يصلوا اليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب قتيلا

ص: 10


1- الغدير 7 : 348 .

ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنه *** من خير أديان البرية دينا(1)

ولما توفي أبو طالب شعر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بأنه فقد أعظم ركن يستند إليه ويدفع عنه أذى قريش حتى أنه قال : (( ما نالني من قومي سوء حتى مات عمي أبو طالب )) فما تعليل هذا الحزن وهذه الكآبة وما كان محمد الاّ صبوراً حازماً واثقاً بنصر رسالته مهما كثر العدو وقلّ الصديق , ومهما كان من شأن الأخيار والأشرار , وما تكون هذه الدموع الغزار إن لم تكن شاهداً على أن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) كرجل أحس بأنه فقد شيئاً من ذاته ؟ (2)وهذا

ثابت في سيرة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فهل يتفق ذلك مع القرآن إن لم يكن أبو طالب مؤمناً بقلبه ولسانه ؟

نخلص مما تقدم إلى أن الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) قد حظي باهتمام ورعاية هذا البيت بشكل كامل , وكان المفضل على جميع سكانه , فكان عمه أبو طالب لا يسمح لأحد بتناول الطعام مادام محمد خارج الدار , وكان يقول ... حتى يحضر إبني . وكانت زوجة عمه أم عليّ (عليه السلام) تفضله على أولادها حتى قال عنها الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) : لقد كانت من أحسن خلق الله تعالى صنعاً لي بعد أبي طالب (3).

بهذه الأجواء النقيّة وعلى هذه الصورة التربوية الفذة نشأ عليّ (ع)بين أب قدوة وأم مثالية وابن عم يذوب بحبّه .

ص: 11


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 24 .
2- جورد جرداق / علي وحقوق الانسان 1 : 70-71 .
3- ابن الصباغ / الفصول المهمة في معرفة الأئمة ص14 .

علي (عليه السلام) في بيت محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) :

جاء في كثير من المصادر أن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أخذ – قبل البعثة – علياً من أبيه وهو صغيرفي أزمة معاشية أصابت قريش وقحط نالهم , فاخذ حمزة جعفراً واخذ العباس طالباً ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخففوا عنه ثقلهم وبقي عنده عقيل .(1)

وهنا يبرز أمران مهمان – إذا أخذنا بهذه الرواية – الأول : إنقياد علي وهو طفل بحدود الرابعة او السادسة من عمره للحياة الجديدة بعيداً عن امه وأبيه دون أية عقبات أو محاولة الرجوع الى الأحضان الرحيمة الأولى ربما للتوافق الروحي مع الأَحضان الرحيمة الجديدة التي عوضته ما يسد حاجته . والأمر الثاني : سعي محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) لتقديم أَفضل ما يحتاجه أبن عمه الصغير رداً لمعروف سابق كان قد حصل عليه هو يوم كان يرفل في نعيم الرعاية والحنو من لدن عمه أبي طالب (عليه السلام) وزوجة عمه والدة عليّ (عليه السلام) وكان في أعلى درجات الوفاء .

وهناك قراءة منطقية جديدة خرج بها الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي على جملة من المصادر التيأتفقت على رواية حصول الأزمة الاقتصادية التي دفعت النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) والعباس والحمزة إلى إحتضان أولاد أبي طالب ليخففوا عنه مؤونتهم , فيقول : لم يكن أبو طالب كثير العيال في مقياس ذلك الزمن ولا في مقاييس الأزمنة التي تلته , فليس غير طالب وعقيل , وكلاهما يقوم بأود نفسه بعد أن تجاوزا العشرين ... , وفاختة وجمانة وقدتزوجتا قبل

ص: 12


1- ابو الفرج الاصفهاني / مقاتل الطالبيين ص15 .

اليوم الذي إنتقل فيه عليّ الى بيت المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) أما باقي أبناء أبي طالب فهما جعفر وعليّ , أما جعفر فهو فتىً لعله قارب الخامسة عشرة يوم كان أخوه في السادسة , ولا أظن أن سيد البطحاء يستطيع الاستغناء عنه في شؤونه الخاصة .(1)

ويشير الدكتور الفرطوسي إلى ما هو أقدم من موضوعة الأزمة والقحط الذي دفع النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لاحتضان إبن عمه عليّ (عليه السلام) فيقول : ... فقد رأيناه منذ ميلاده المبارك في حجر المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) يضمّه الى صدره ويشاطره فراشه فيمسه جسده الشريف ويشم رائحته الزكية , وكان يمضغ الطعام بفمه ويلقمه إيّاه . وهذا ما ذكره أَمير المؤمنين (عليه السلام) ويرويه أبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة حيث يقول (عليه السلام) : (( وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه , وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه )) وهذا لا يكون الاّ في السنين الأولى من طفولته وليس في سن السادسة . إنّ أمراً آخر هو الذي دفع النبي المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) الى كفالة الوليد , قد يكون تدبيراً ربانياً نلمحه في ما نقله الأصفهاني في مقاتله ص41 وإبن أبي الحديد في الشرح 1 : 21 عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : ... قد اخترت من اختاره الله لي عليكم , علياً .(2)

ويكبر الصبي ويكون أول من يدخل غار حراء مع المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) ويشهد مناجاته وتأملاته وتعبده . ويبقى نشاط عليّ اليومي مغيّباً , فلم يتعرض المؤرخون وارباب السيَر إلى ذكر ما يقوم به عليّ من أفعال داخل

ص: 13


1- الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي / وما أدراك ما عليّ 1 : 76 .
2- الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي : وما أدراك ما عليّ 1 : 78 .

البيت أو خارجه عدا ما ذكر بعضهم وصفاً مجملاً عاماً , مؤكدين على ملازمته لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) , ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن الشرقاوي : ... وفي الحق أنه كان له أخاً وابناً وعوناً , وكان عليّ يساعد في عمل المنزل , تعوّد أن يشترك في عمل المنزل أسوة برسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) , كان يدير طاحونة اليد بنفسه يطحن عليها الشعير والقمح .. (1)ومع

أن ذلك لم يكن من سنخ العمل المعهود عند الناس الاّ أنه دليل الانسجام والأُلفة

التي يتشكل منها جو البيت النبوي الذي يضم سيد الكائنات محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) وسيد العرب أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وسيدة النساء خديجة الكبرى أُم المؤمنين وأُم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين .

علي في مدرسة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الابتدائية :

وتتدخل العناية العليا في أن يكون عليّ (عليه السلام) وهو في سن التعليم الطبيعية بين الرابعة والسادسة من عمره الشريف , في كنف معلم الانسانية الأول والمثل الأعلى لفاضل السلوك وكريم الأخلاق وكنز علوم الأولين والآخرين محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قبل البعثة بعقد من السنين على الأرجح , ومع أنه لم يأت من بيت أبيه خالي الوفاض , فقد أخذ من منبع الخير والصلاح ما ملأ روحه وفكره من مبادئ القيم النبيلة , مما سهّل على معلمه الإرتفاع به وإغناء فكره وروحه بجليل العلوم ودقيق المعارف , وقد أشار عليٌ (عليه السلام) إلى تعهد الرسول محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) إياه فقال : (( ... لقد كنت أتَّبعه إتبّاع الفصيل أثر أُمّه , يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني

ص: 14


1- الشرقاوي / علي أمام المتقين ص 25 – 26 .

بالاقتداء به )) (1) وفي الجانب التطبيقي كان الصبي – عليّ (عليه السلام) - يرى ويسمع ويتعايش مع سكان البيت , مع زوج رسول الله خديجة التي رأت في وليد الكعبة ولداً حرمت منه فعاش في بيتها , ومع الأنموذج الأول في كل مفردات الصلاح , النبي المختار لرسالة السماء محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) .(2)

وهكذا ظفر عليّ (عليه السلام) بخير الدنيا وعز الآخرة حتى قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) (( أنت أخي في الدنيا والآخرة )) (3)ويبدو

أن الرسول الكريم كان حريصاً جداً على أن يكون ابن عمه في قمة الكمال , وأراده (( أن يكون القلم الذي يكتب به قرآنه ويحرر له عهوده ومعاهداته ورسائله من بعد , فدفعه لتعلم الكتابة في بيئة يصعب العثور فيها على من يعرفها .. وبسبب تلك العناية الفائقة إندفع الصبي بعد أن شب عن الطوق الى الذوبان في محبة إبن عمه .... وتبعه كظله وإئتمر بأمره وحاكاه في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وسلوكه الشريف )) .(4)

إسلام علي (عليه السلام)

من الحقائق الباهرة السطوع ما نبّه إليه الكاتب القدير جورج جرداق بقوله : لقد كانت عبقرية علي تتفتح فيه وهو صبي شعوراً عميقاً طاغياً بنصرة الخير وتضحيات أشبه بالمعجزات . ففي البيت الطالبي الواحد تنمو الروح الواحدة بالصدق والصفاء ووحدة النظر إلى الكون والحياة , وتستمر على أُصول أعمق وفروع أكثر في علاقة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) مع ربيبه الطفل ثم الصبي ثم

ص: 15


1- محمد عبده / نهج البلاغة 2 : 182 .
2- الدكتور صلاح الفرطوسي / وما أدراك ما عليّ 1 : 82 .
3- كاظم الفتلاوي / الكشاف المنتقى ص 181 ( ذكره 94 مصدراً )
4- الدكتور الفرطوسي / المصدر السابق 1 : 86 .

الشاب إبن عمه العظيم علي بن أبي طالب . ولطالما جاور عليٌ محمداً في خلواته وسار على نهجه في الانقطاع عن القريشيين المتمردين في ليل جهالتهم وجمودهم على ما هم عليه من عادات وأخلاق , وهذا الجوار لم يظفر به واحد – غير علي – من أصحاب الرسول وتلاميذه .(1)

وينزل الوحي على المختار (صلی الله علیه و آله وسلم) بآيات من القرآن المجيد لتبتدئ بها نبوّته ...

والنبوة وظيفة إلهيّة وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيتهم (2)

فالصلاح والكمال صفتان لازمتان للاختيار , فقد قال الله تبارك وتعالى : «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(3). واذا أنعمنا النظر في معاني الصلاح والكمال نجد أنهما يختصران عالم الخير والتبصّر , ويترجمان مكارم الأخلاق والاقتدار بامتياز في معرفة حاجات الانسان المادية والمعنوية , وعلاقته بمحيطه , وبالكون الذي يحتويه وبخالق الكون وصفاته وآثاره في مخلوقاته ..

ويوم هبط جبرائيل (عليه السلام) بقوله تعالى : «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ»(4) كان عليّ في الحادية عشرة أو أكثر بقليل من عمره الشريف , وقد ملأت أنوار الشروق الأول للاسلام روحه ووجدانه , ولم تزده الاّ تأييداً وتصديقاً للرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) . فعلي مسلم بالفطرة والنشأة والتربية , أليس هو ربيب المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) ورفيقه الذي لا يفارقه حتى في خلواته في غار حراء ؟ وقد أكد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) علاقته

ص: 16


1- علي وحقوق الانسان 1 : 73-74 .
2- الشيخ محمد رضا المظفر / عقائد الامامية ص48 .
3- سورة البقرة الآية 124 .
4- سورة العلق الآية 1

بعلي (عليه السلام) في أكثر من مناسبة (( وسُئل (صلی الله علیه و آله وسلم) عن بعض أصحابه , فذكر فيه , فقال له قائل : فعليّ , فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) : إنّما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي )) (1) .

واتفق الجميع على أنّ أول من صدّق رسول الله واعتنق الاسلام ديناً هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) , ولم يصلِّ مع رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في السرِّ إلاّ علي وخديجة زوجة رسول الله . قال عليٌّ (عليه السلام) : اللّهم لا أعرف لك عبداً من هذه الأُمّة عبَدَك قبلي غير نبَيّك , لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً.(2)وهو بما أوتي من عقل كاشف وفكر مبدع وحب شامل وحنان عميق وضمير عملاق , وبما أدركه وتأمله من أحوال الكون ونواميسه الثابتة كان أقدر الخلق في الشعور الحار بقوة الكون المركزية التي هي الله .(3)

واختلف الرواة والمؤرخون في سِنّه يوم أسلم . يقول أبو الفرج الأصفهاني : (( حدثني أحمد بن الجعد الوشاء , قال حدثنا ... عن زيد بن علي : وكانت سِنّه يوم أسلم إحدى عشرة سنة على أصح ما ورد من أخبار إسلامه )) (4)

أما أبو جعفر الاسكافي فيقول : (( إستضافه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى نفسه وعمره ثماني سنين فمكث سبع سنين حتى أتاه جبرئيل بالرسالة فدعاه وهو بالغ كامل العقل إلى الأسلام )) (5)وقال

المسعودي : (( وتنوزع في سنّه يوم أسلم فقالت فرقة كانت سنّه يومئذ خمس عشرة سنة وقال آخرون ثلاث عشرة سنة وقيل احدى عشرة سنة وقيل تسع وقيل ثمان وقيل سبع وقيل ست

ص: 17


1- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 2 : 217 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 2 : 17 .
3- علي وحقوق الانسان 1 : 31 .
4- مقاتل الطالبيين ص15.
5- ابن ابي الحديد / شرح نهج البلاغة 13 : 248 .

وقيل خمس , وهذا قول من قصد إلى إزالة فضائله ودفع مناقبه ليجعل إسلامه إسلام طفل صغير وصبي غرير ... ))(1).

وللرد على تلك الاقوال المغرضة نستعين بقول رسول (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( صلّت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين لأنه لم يكن من الرجال غيره ))(2)فهل

تطلق صفة الرجال على الأطفال ؟ ويقول محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالاسكافي : مدحه رسول الله بقوله لابنته فاطمة (عليها السلام) : (( زوّجتُك أقدمهم إسلاماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً )) فلو كان إسلامه عن تلقين لما افتخر هو (عليه السلام) به على رؤوس الأشهاد . (3)

وحان الحين ليظهر الإسلام إلى العلن يوم هبط الأمين جبرائيل (عليه السلام) بقوله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(4).

يقول الامام عليّ (عليه السلام) : دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال : يا عليّ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين .... فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن , ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم , ففعلت ما امرني به , وكانوا أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون (5)

فأكلوا وشربوا كلهم ... فلما أراد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أن يكلمهم بدره ابو لهب الى الكلام فقال : لهدّما سحركم صاحبكم – قال ذلك حين اكلوا وشربوا جميعهم من طعام وشراب ربما يأكله واحد منهم فلم يؤثروا فيه – فتفرق القوم

ص: 18


1- المسعودي / التنبيه والإشراف ص198 .
2- القندوزي الحنفي / ينابيع المودّة ج1 باب 12 ص59 , مؤسسة الأعلمي بيروت .
3- ابن ابي الحديد / شرح النهج 13 : 240 .
4- سورة الشعراء الآية 214 .
5- فهل يكلّف عمل الطعام ودعاء القوم صغير غير مميز أو غير عاقل ؟ وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ؟ وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول الاّ عاقل لبيب ( عبد الفتاح عبد المقصود / الامام علي بن أبي طالب – المجموعة الكاملة – 1 : 77 وانظر : ابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة 13 : 245 .

ولم يكلمهم رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) . فقال : الغد يا علي , ففعلت .. وتكلم الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال : إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به , إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة , وقد امرني الله تعالى أن أدعوكم إليه , فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم جميعاً , فقلت – وأني لأحدثهم سناً – أنا يانبي الله أكون وزيرك علية , فأخذ برقبتي ثم قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا(1).

إنّ لهذه المناسبة التي عرفت بيوم الدار قيمة تاريخية مهمة كونها تمثل الومضة الأولى في حياة أمير المؤمنين القيادية والتصدي للمسؤولية الجهادية . كما أن ما جرى فيها يستدعي الوقوف عنده ملياً , فماذا وراء قول الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) (( من يؤازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا )) فلو استجاب له أحد أعمامه أو أحد كبار السن فهل تنطبق عليه صفة أخي ؟ ثم على أي شيء عوّل الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) ليقول قوله ذلك؟

الذي يقوى في اعتقادي : ان قول الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) مار الذكر قد سبقه وحيٌ بأن الذي سوف يستجيب لطلبك هو عليّ بن أبي طالب وحده , فكان ما كان . (( وإن هناك دلالات واضحة هيأت الإمام علياً (عليه السلام) لأن يكون الشخص المعد بشكل فعلي من قبل الإرادة النبوية المعززة بالمشيئة الإلهية لتولي منصب الإمامة والولاية على كافة المسلمين )) (2) و (( لاستجلاء هذه الوقائع بأرقامها ... تخبرنا إلى أي مدى كان التلاحم الروحي بين النبي وابن

ص: 19


1- الطبري / تاريخ الطبري 2 : 319 , 321 .
2- راجي أنور هيفا / الامام علي في الفكر المسيحي ص157 .

عمه العظيم . كما تخبرنا إلى أي مدى كان علي وارثاً لمزايا الرسول ... ويمكننا أن نستنتج إن الرسول إنما كان يمهد لعلي سبل الخلافة لأنه رأى فيه صورة عنه من حيث سمو الخلق ونبل المقصد وسائر المكارم ))(1)

ص: 20


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص77 .

دور الامام علي (عليه السلام) في مكة قبل الهجرة

بعد إنجازه (عليه السلام) مهمة دعوة عشيرته الأقربين تنفيذاً لأمر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) والذي عرف بيوم الدار تبيّن أن عمره الشريف قد زاد على العشرين عاماً , فهو بهذه السن لابد من ان يكون له دور بالقدر الذي يميّزه عمن سواه ممن اسلموا لاحقا , وظاهر الأمر أن من كتب في تاريخ تلك الحقبة قد تجاهل دور الامام (عليه السلام) أو لم يسمح بذكره على الرغم من كونه (عليه السلام) كان طاقة هائلة من القوة الجسدية والعنفوان الشبابي , عدا إبن شهر آشوب فقد ذكر دوراً لأمير المؤمنين في مكة لم يتطرق له الآخرون فقال : ... وكان النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) اذا خرج من بيته تبعه أحداث المشركين يرمونه بالحجارة حتى أدموا كعبه وعرقوبيه وكان علي (عليه السلام) يحمل عليهم فينهزمون , فنزل :«كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ»(1) .

أمّا الحدث الأعظم الذي فرض نفسه على الموالف والمخالف ولم تستطع اية جهة إخفاءه أو إغفاله هو : مبيت الامام علي (عليه السلام) في فراش النبي ليلة الهجرة .

ومن جميل ما روي في تلك المناسبة , الحديث الذي دار بين الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) وبين علي (عليه السلام) , ومجمله : إن الرسول قال لعلي : إنّ الله تعالى أوحى إليَّ أن أهجر دار قومي , وآمرك بالمبيت على مضجعي .. فقال علي

ص: 21


1- مناقب آل ابي طالب 2 : 68 والآيتان 50-51 من سورة المدثر , والحقيقة إن سبب النزول غير ذلك , وربما أراد صاحب المناقب ما تحمله الآيتان من معنى ينطبق على الحالة .

(عليه السلام) : اوَ تسلم بمبيتي هناك ؟ فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) : نعم . فتبسم علي ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً فكان أول من سجد لله شكراً .(1)

وورد أن مبيت علي (عليه السلام) في فراش النبي ليلة الهجرة قد سبقه نومة او نومات حين كان النبي والمسلمون محاصرين في شعب أبي طالب (( وكان النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) اذا أخذ مضجعه ونامت العيون جاء أبو طالب فانهضه عن مضجعه وأضجع علياً مكانه )) (2)

خوفاً عليه من الغدر .

وكان لعلي (عليه السلام) دور وأي دور في أيام الحصار في شِعب أبي طالب , من الحرص على توفير المؤن لأصحاب الشعب ما وقاهم غائلة الموت جوعاً , ومن تعريض نفسه الى الهلكة ,(( فكان يخرج ليلاً من الشعب , يخفي نفسه ويضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي وغيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح )) (3)

.

وآخر مهمة لعلي (عليه السلام) في مكة قبل هجرته , تنفيذ وصية الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) بأداء أماناته واصطحاب الفواطم ( فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفاطمة بنت أسد أم الامام علي وفاطمة بنت حمزة عم النبي ) والتوجّه إلى يثرب ( المدينة المنورة) , قال ابن هشام : وأقام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) الودائع التي كانت عنده للناس , حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فنزل معه على كلثوم بن هدم(4) .

ص: 22


1- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 1 : 183 .
2- المصدر السابق 1 : 64 .
3- الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي / وما ادراك ما علي 1 : 115 .
4- سيرة ابن هشام 2 : 138 .

وفي المدينة حين أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ببناء مسجد المدينة عمل هو (صلی الله علیه و آله وسلم) فيه ليرغّب المسلمين في العمل فيه فعمل المهاجرون والانصار وكان بينهم عمار بن ياسر وعلي بن ابي طالب (1).

علي (عليه السلام) في المدينة المنوّرة ( الجهاد المسلّح )

قبل الحديث عن دور الامام علي (عليه السلام) في المدينة , ينبغي التأكيد على ما آل إليه مصير الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) والمسلمين في المدينة , كمهاجرين قد اضطرتهم سياسة الاضطهاد التي مارستها قريش ضدهم إلى ترك ديارهم وممتلكاتهم والهروب بأنفسهم وعقيدتهم إلى بيئة جديدة يحتاج فيها الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) ومن معه من المهاجرين والأنصار وبقية سكان المدينة الى منظومة إتفاقات ومعالجات مجتمعية تضمن للجميع التعايش السلمي , وترتيب العلاقات , علماً بأن التشكيلة الجديدة للسكان حديثة ألتكوين وفي وسط غير مستقر أصلاً فالقبائل العربية من الأوس والخزرج حديثي العهد بالاستقرار النسبي , ولليهود وجود ظاهر ومؤثر , مما دفع الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى وضع دستور لهذا المجتمع سمي بالصحيفة أو وثيقة المدينة (2)

ثم المؤخاة بين المهاجرين والانصار .

لنقف قليلاً مع المؤخاة وبالذات المؤخاة بين رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وابن عمّه علي بن ابي طالب (عليه السلام) ؛ فهي ليست وليدة يوم المؤخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة , فقد آخاه في عدة مواضع وعدة مناسبات , والحقيقة إن مؤاخاتهما بدأت في دار أبي طالب يوم كان أبو طالب يسمي

ص: 23


1- المصدر السابق 2 : 142 .
2- كتب رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) كتاباً بين المهاجرين والأنصار , ووادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم , وشرط لهم واشترط عليهم ,, وتفاصيل الوثيقة – طويلة – في عدة مصادر ومنها السيرة النبوية لإبن هشام 2 : 147-150 .

محمداً (( إبني)) وذلك عندما جاءت قريش بعمارة بن الوليد وقالوا يا أبا طالب هذا عمارة فتى قريش وأشعرهم وأجملهم خذه لك فاتخذه ولداً وأسلم لنا إبنأخيك هذا الذي سفّه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك , وفرّق جماعة قومك , نقتله , فانما رجل برجل . فقال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني , أتعطوني إبنكمأغذوه لكم وأعطيكم إبني تقتلونه ؟! . (1)

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول لفاطمة بنت أسد والدة علي (عليه السلام) أُمي , فهو أخ لعلي بالعلاقة والرعاية والأمومة . وجرت بينهما مؤاخاة في يوم الدار , يقول الامام علي (عليه السلام) : فاخذ برقبتي ثم قال : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وإطيعوا(2)

وفي المدينة المنوّرة بدأ (صلی الله علیه و آله وسلم) بمشروع المؤاخاة بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال : تآخوا في الله أخوين أخوين , ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال هذا أخي .(3)ونقل

إبن شهر آشوب في المناقب من الترمذي والسمعاني والنطنزي , أنه قال : آخى رسول الله بين الصحابة فجاء علي تدمع عيناه فقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد ؟ فقال النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) : أنت أخي في الدنيا والآخرة (4)وقد

أكد مؤخاة النبي لعلي (عليه السلام) أوثق الرواة وأهم المصادر وذكرها أكثر من تسعين مصدراً (5)وعن

أبي إسحاق العدل : قال أبو يحيى : ما جلس عليٌ

ص: 24


1- ابن الاثير / الكامل في التاريخ 2 : 64-65 .
2- ابن الأثير : الكامل 2 : 63 .
3- ابن هشام / السيرة 2 : 147 – 150 .
4- مناقب آل أبي طالب 2 : 185 – 186 .
5- كاظم عبود الفتلاوي / الكشاف المنتقى ص181 .

على المنبر الاّ قال : أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يقولها بعدي الاّ كذاب (1) وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في يوم خيبر : انت أخي ووصيي(2).

كما شارك الشعر في توثيق المؤخاة بين النبي والوصي . ففي سلوة الشيعة يقول الفنجكردي ان جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سمعت علياً ينشد ورسول الله يسمع :

أنا أخو المصطفى لاشك في نسبي *** معه ربيت وسبطاه هما ولدي

جدي وجد رسول الله منفرد *** وفاطم زوجتي لا قول ذي فند

قال : فتبسم رسول الله وقال : صدقت . (3)

ولإبن حماد :

وآخاك أحمد إذ آخى صحابته *** وكنت أنت لهدون الأنام كفي

والسوسي قال :

هل من أخ لرسول الله نعرفه *** سوى عليّ فهل بالأمر منه خفا

وأبو العلا :

من في الورى أحدٌ أخوه محمد *** أكرم بذاك من النبي أخاه

الحمْيري :

ص: 25


1- ابن شهر آشوب / المناقب 2 : 186 .
2- المسعودي / التنبيه والإشراف ص139 .
3- ابن شهر آشوب 2 : 187 .

فتى أخواه المصطفى خير مرسل *** وخير شهيد ذو الجناحين جعفر (1)

(( وبعد مرحلة التنظيم في المدينة واحتواء اليهود فيها بدأت مرحلة الجهاد المسلح ضد الوثنية والشرك في مكة التي أُصيب قادتها بالجزع لما حققه الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) من إنتصار في هجرته , وأخذوا يعدّون الخطط للقضاء على الحاضنة الاسلامية الصاعدة , ومن الطبيعي أن يكون لعلي (عليه السلام) دور بارز في هذه المرحلة الدقيقة .(2)

وكانت وقعة بدر , يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان من السنة الثانية للهجرة (3)

وكان صاحب راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) علي بن أبي طالب (عليه السلام) , وصاحب راية الانصار سعد بن عبادة .(4)

ومعلوم أن أحداث بدر لا يخلوا منها كتاب أرّخ لوقتها , والذي يهمنا منها دور علي (عليه السلام) فيها :

والملحظ الأول : حصوله على ثقة القائد (صلی الله علیه و آله وسلم) بحمل الراية في أول معركة بين الايمان والشرك , بين ثلاثمائة وثلاثة عشر من المسلمين مقابل الف مقاتل متحمّس حاقد من مشركي قريش , (( ولم يكن ذا صيت في الحرب إذ لم يحارب إلاّ لماماً ولم يكن ذا سنٍ متقدمة عركتها ميادين القتال))(5).

ص: 26


1- ابن شهر آشوب / المناقب 2 : 188 , 189 .
2- الدكتور ابراهيم بيضون / الإمام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ ص35 .
3- الطبري / تاريخ الطبري 2 : 420 .
4- المصدر السابق 2 : 431 .
5- الدكتور محمد حسين علي الصغير / موسوعة اهل البيت الحضارية – الامام علي عليه السلام ص26 .

ويبدأ المشركون القتال , عندما برز عتبة بن ربيعة وإبنه الوليد وشيبة إبن ربيعة يطلبون أكفاءهم من المسلمين ومن قريش بالذات بعد أن رفضوا من برز لهم من الأنصار , فانتدب النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) لهم علياً وحمزة وعبيدة , وأسفرت المنازلة عن مقتل أقطاب الشرك فرسان قريش جميعهم , مما أفرح النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وتفاءل المسلمون بأول نصر , وهزيمة المشركين , فكان عدد قتلى المشركين سبعين وعدد أسراهم سبعين , وكانت حصة علي (عليه السلام) من القتلى النصف وشارك في جملة من الباقين .

وبهذا ووفق معيار البطولة والبأس , حقق علي (عليه السلام) المركز الاول وتصدر قائمة الابطال ؛ في نفس الوقت الذي سجل المركز الأول في معاداة قريش له لأنه جندل قادتهم وصرع مقاتلتهم وحقق النصر للاسلام في أول مواجهة مصيرية .

(( الأمتحان الصعب في معركة أُحُدْ ))

إنْ نكبة قريش في بدر أثارت فيها حقداً ورغبة انتقام من محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ومن المسلمين , فتجهزت بالعدّة والعدد . (( خرجت قريش بالظعن والأسلحة وساروا بمائتي فرس وثلاثة آلاف بعير , وهم ثلاثة آلاف, وفيهم سبعمائة دارع )) (1).

ومجمل نتائج المعركة إمتحان لجملة من صحابة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في فجر الدعوة وفي أحرج أوقات المقارعة بين الاسلام والشرك , فبعد أن عبأ النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) أصحابه , أمرَ خمسين صحابياً من الرماة أن يلزموا الجبال لحماية

ص: 27


1- االمصدر السابق ص36 .

المجاهدين من حركات الالتفاف , وألزمهم بالثبات في مواضعهم وعدم تركها مهما كانت النتائج .

بدأت المعركة وكان لواء الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) بيد علي (عليه السلام) ولواء المشركين بيد طلحة بن أبي طلحة , فطلب البراز , فخرج له عليٌ بين الصفين , وتجاول حاملا اللوائين فبدره عليٌ بضربة على راسه فمضى السيف حتى فلق هامته , وسقط , فبرز بنو عبد الدار سبعتهم واحداً بعد واحد يتساقطون حول اللواء بسيف علي فحمله أرطاة بن عبد شرحبيل فقتله علي وحمله غلام بني عبد الدار فقتله علي , وسقط اللواء فانهزم المشركون.(1)

لقد كان الحسم في بادئ الأمر علوياً , فهجم المسلمون وراء المنهزمين , حتى أنّ الرماة تركوا أماكنهم طمعاً بالغنائم , فخالفوا بذلك أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وانكشف ظهر المسلمين , مما دفع خالد بن الوليد للهجوم عليهم وقتل قائد جماعة الرماة عبد الله بن جبير , فعاد المنهزمون الى ميدان القتال وكادوا أن يصلوا إلى هدفهم المركزي المتمثل بقتل النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) عندما فرَّ الرجال عن النبي الاّ بعضاً منهم , وباشر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) القتال بنفسه فأدميت جبهته وأُصيبت رباعيته , وكانت كتيبة بني كنانة أشدها عليه , فالتفت رسول الله إلى علي وقال : يا علي أكفني هذه الكتيبة , فحمل عليها , وإنها تقارب الخمسين فارساً ففرق جمعهم وقتل تمام العشرة ... واشتد القتال على علي وهو يذب بالسيف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) , فنادى جبرائيل من قبل السماء:

لا سيف الاّ ذوالفقار *** ولا فتى الاّ علي

ص: 28


1- المصدر نفسه ص38 .

لقد سلّم الله تعالى رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) من أذى قريش وفرّج الله كربة المسلمين بسيف علي وصمود عاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل إبن حنيف , وأبي دجانة الانصاري وحمزة بن عبد المطلب عم النبي قبل إستشهاده(1).

وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي مني بها جيش الاسلام , واستشهاد عم النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) وقد حققت قريش الهزيمة في جيش المسلمين , وكانوا يضنون انها نهاية الاسلام , الاّ أن الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) أعاد تنظيم قواته وفاجأ قريش بغزوة (( حمراء الأسد )) وكان لواء الرسول معقوداً فدفعه الى علي (عليه السلام) .

وبعد غزوة بني النضير التي شارك فيها علي (ع)إنطلق الرسول في غزوة (( بدر الموعد )) في منتصف العام الرابع للهجرة , سمّيت كذلك لأن أبا سفيان هدد المسلمين بعد معركة أحد بقوله : موعدٌ بيننا وبينكم بدر الصفراء راس الحول نلتقي ونقتتل . وقد عهد الرسول باللواء الاعظم في الغزوة الى علي بن ابي طالب حسب رواية كل من الواقدي وابن سعد .

وتتوالى الغزوات والسرايا, مستهدفة مواقع القبائل المتحالفة مع مكة , فتضيق قريش ذرعاً بهذا التحرك المستمر من جانب الرسول , وتقرر وضع حد لسيطرة المسلمين على المدينة , فتشن حملة جنّدت لها أقصى طاقاتها

ص: 29


1- المصدر السابق ص38-39 .

وطاقة حلفائها , وهي الحملة المعروفة ب- (( الأحزاب )) بقيادة أبي سفيان بن حرب (1).

خرجت قريش بجيش لم تشهده الجزيرة العربية من قبل , إذْ قارب العشرة آلاف ما بين فارس وراجل كما روى الواقدي في مغازيه 2 : 443 وابن هشام في سيرته 3 : 203 , واتجهت نحو المدينة (2)وكانت في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة , وهي من المعارك الحاسمة التي سجّلت نهاية الغطرسة القرشية واندحار المشركين بدون قتال , وذلك بتوفر عوامل النصر للمسلمين وخذلان الأحزاب , وتتركز في ثلاثة أمور :

الأول : خط الدفاع الجديد على ساحة المعارك العربية وهو الخندق – وقد سميت المعركة به –

والثاني : وجود علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

والثالث : تدخّل العناية العليا . ولتفصيل هذه الأمور - باختصار – نقول : كان الخندق بمشورة من الصحابي الجليل سلمان الفارسي , وكان سبباً في منع جيش المشركين من دخول المدينة , واكتفى بحصارها . وبعد خمسة أيام من الحصار استطاع خمسة أو ستة من صناديد قريش عبور الخندق من أضيق موضع فيه , وكان المتقدم فيهم عمرو بن عبد ود العامري الذي طلب البراز فأحجم المسلمون كافة عن الرد عليه , وساد الناس السكون كأن على رؤوسهم الطير , وبعد إلحاح عمرو بن عبد ود , قام عليٌّ واستأذن الرسول بمبارزته , فأمره الرسول بالجلوس , وتكرر ذلك ثلاث مرات فلم يقم إليه أحد

ص: 30


1- الدكتور ابراهيم بيضون / المصدر السابق ص37-38 .
2- الدكتور صلاح الفرطوسي / المصدر السابق 1 : 270 .

سوى علي (عليه السلام) ... ولسنا بصدد الاحاطة بمجريات الأحداث في تلك المعركة , ويكفي ان نختصر الدور التاريخي للأمام علي (عليه السلام) فيها .

ذكر إبن أبي الحديد في معرض حديثه عن شجاعة علي (عليه السلام) , قال : روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال : أتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبدالله , إن الناس يتحدثون عن علي بن ابي طالب ومناقبه فيقول لهم أهل البصيرة إنكم لتُفرطون في تقريظ هذا الرجل , فهل أنت محدّثي بحديث عنه أذكره للناس ؟ فقال : يا ربيعة , والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أُمّة محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) في كفّة الميزان منذ بعث الله تعالى محمداً إلى يوم الناس هذا ووضع عمل واحد من أعمال علي في الكفّة الأخرى لرجح على أعمالهم كلّها , فقال ربيعة : هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل , انّي اظنه إسرافاً . فقال حذيفة : يالكع وكيف لا يحمل , وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر اليهم عمرو واصحابه فملكهم الهلع والجزع , ودعا إلى المبارزة فاحجموا عنه حتى برز إليه علي وقتله , والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمة محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة . وجاء في الحديث المرفوع (( إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قال ذلك اليوم حين برز إليه : برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه )) (1).

وكان لمقتل فارس قريش عمرو بن عبدود العامري تأثير ظاهر في معنويات الحملة التي داهمها الشتاء , وهنا تجسد فعل العناية العليا لحماية الاسلام بالبرد والرياح العاتية التي قلعت الخيام وأطفأت النيران وشلّت حركة

ص: 31


1- شروح نهج البلاغة 19 : 60-61 .

المشركين . مما دفع راس الشرك أبا سفيان للانسحاب , وفك الحصار عن المدينة .

وبعد إنسحاب قريش جعل الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) في أولويات تحرّكه معالجة الجبهة الداخلية بالتخلص من الثغرة التي حاولت قريش النفاذ منها الى المدينة , فدعا علياً (عليه السلام) وقدم إليه راية المهاجرين في الحملة التي حاصرت بني قريظة وأدت بهم إلى الاستسلام ثم القتل ... (1)

إن المرور على معظم الوقائع والغزوات ليس هدفاً بحد ذاته بل الهدف التأكيد على دور عليّ (عليه السلام) فيها لأنه لم يكن دوراً تقليدياً كباقي المقاتلين المسلمين , إنه الدور الذي يحسم المنازلة وبالنصر , فلم يُهزم جيش فيه علي ولواء الحق بين يديه , وتشهد له نتائج بدر وأُحد والخندق وجملة من الغزوات بعد الخندق حتى تقرر إحتلال حصون اليهود في السنة السابعة للهجرة وكان القائد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فسقط حصن ناعم ثم القموص وحصن الصعب بن معاذ وكان آخر الحصون وامنعها حصن خيبر , وحين نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بحصن أهل خيبر بعث أبا بكر برايته وكانت بيضاء إلى بعض حصون خيبر فقاتل فرجع ولم يك فتح . ثم أعطى اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه فرجعوا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار , فلما كان من الغد فدعا علياً (عليه السلام) وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه اللواء , ونهض معه من الناس من نهض . قال : فلقى أهل خيبر فاذا مرحب يرتجز ويقول : قد

ص: 32


1- الدكتور ابراهيم بيضون / المصدر السابق 1 : 39 .

علمت خيبر أني مرحب ... فاختلف هو وعلي ضربتين , فضربه علي على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه , فما تتام آخر الناس مع علي (عليه السلام) حتى فتح الله له ولهم (1).

وعن ابي رافع مولى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : خرجنا مع علي بن ابي طالب حين بعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) برايته , فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم , فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي (رضی الله عنه) باباً كان على الحصن فتترس به عن نفسه , فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه , ثم القاه من يده حين فرغ , فلقد رأيتني في نفر سبعة وأنا ثامنهم نجهد على ان نقلب ذلك الباب فما نقلبه (2).

ومال المشركون الى الصلح مع رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) , فبعثت قريش وفداً , وبعث النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) علياً موفداً من قبله للمصالحة . قال الطبري : حدثنا إبن حميد قال : حدثنا ... عن علي بن ابي طالب قال : ثم دعاني رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال : أكتب ..(3)وكانت

شروطاً لصلح أُبرم في الحديبية , فسمي صلح الحديبية , ومن شروطه الملزمة للطرفين : إنّ من يخرق شرطاً فانه ينهي التزام الطرف الآخر بالصلح كله . وقد نقضت قريش وحلفاؤها العهد , فاجمع النبي أمره على الخروج بالسيف , وأعلن النفير العام مع التأكيد على سرّية الجهة المقصودة لا يعلمها الاّ خاصة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وعلى رأسهم علي (عليه السلام) . خرج النبي بعشرة آلاف , وأعطى الراية العظمى لعلي (عليه السلام) , وقسّم الألوية على زعماء القوم من المهاجرين والانصار وسار حتى نزل (( مر

ص: 33


1- الطبري / تاريخ الطبري 3 : 11-12 .
2- المصدر السابق 3 : 13 .
3- المصدر السابق 2 : 13 .

الظهران )) ... وأخيراً دخل رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) مكة المكرمة فاتحاً كما وعده الله تبارك وتعالى بقوله «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا»(1) .

وبعد الفتح والنصر المبين أقام النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) في مكة نصف شهر حتى جاءت هوازن وثقيف , فنزلوا بحنين – وحنين واد ... – وكانوا قد سمعوا قبل ذلك بمخرج رسول الله من المدينة وهم يظنون أنه إنما يريدهم , ولما أتاهم أنه قد نزل مكة أقبلت هوازن وثقيف يريدون النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) ... فعمد النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) حتى قدم عليهم فوافاهم بحنين (2)

وكانت تدابير المشركين قد أوقعت بالمسلمين الهزيمة وذلك بالمفاجئة والكثرة . فعن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال : لما إستقبلنا وادي حنين , إنحدرنا في واد من أودية تهامة ... وفي عَماية الصبح , وكان القوم قد سبقوا الى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه ... فو الله ماراعنا ونحن منحطّون الاّ الكتائب قد شدّت علينا شدة رجل واحد , وانهزم الناس أجمعون , وانحاز رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ذات اليمين ثم قال : أين أيها الناس ! (3)ولم يبق منهم مع النبي الاّ عشرة أنفس تسعة من بني هاشم خاصة وعاشرهم أيمن بن أم أيمن , فقتل أيمن وثبتت التسعة الهاشميون حتى ثاب إلى رسول الله من كان إنهزم فرجعوا وفي ذلك يقول مالك بن عبادة الغافقي :

لم يواس النبي غير بني *** هاشم عند السيوف يوم حنين

هرب الناس غير تسعة رهط *** فيهم يهتفون بالناس أين

ثم قاموا مع النبي على الموت *** فأبوا زيناً لنا غير شين

ص: 34


1- سورة الفتح الآية 27 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 3 : 70 .
3- المصدر السابق 3 : 74 .

قالوا : وأقبل رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل وهو يرتجز ويقول :

أنا أبو جرول لا براح *** حتى نبيح اليوم أو نُباح

فصمد له أمير المؤمنين (عليه السلام) فضرب عجز بعيره فصرعه ثم ضربه فقطره فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول ... (1)

والمتحقق من مجمل الأخبار أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) مثَّل السد المنيع الثابت , وبثباته ثبت المسلمون الهاشميون , وعاد الهاربون , وتحقق النصر .

ولم تكن حنين آخر الانجازات العسكرية في مسيرة علي أمير المؤمنين (عليه السلام) الجهادية في عهد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) بل كانت هناك وقائع وغزوات أمره النبي بالتصدي للمشركين المعاندين فيها فأنجز المهمات بالنصر المؤزر فكان على رأس آخر مهمة عسكرية في حياة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي عهد إليه قيادة سريّة إلى اليمن , فسار إليها في رمضان من السنة العاشرة للهجرة , فتوغل المسلمون لأول مرة في بلاد مذحج حيث تصدى لهم قوم من الاخيرة فحمل عليهم عليّ (عليه السلام) وهزمهم . (2)

أما تخلّف عليّ (عليه السلام) عن غزوة تبوك , فكان بأمر رسول (صلی الله علیه و آله وسلم) حيث خلّفه على المدينة , وعند إستفساره(عليه السلام) بقوله : يارسول الله

ص: 35


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص95-97 .
2- الدكتورة ابراهيم بيضون / المصدر السابق ص42 , 43 .

أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( أما ترضى أن تكون منّي بمزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي )) (1).

وفي معالجته لتخلف الامام علي عن غزوة تبوك يقول الدكتور إبراهيم بيضون : إنّه يندرج في إعداد علي (عليه السلام) لمهمة أخرى على مستوى السياسة , واذا كان غياب علي لا يتفق وهذا التفسير خصوصاً وأن حملة بهذا المستوى كانت تقتضي بالضرورة مشاركة مقاتل كبير مثل علي , فإن هذه الحملة لم تهدف في الواقع إلى محاربة البيزنطيين في الشام بقدر ما كانت تتوجه الى ألقبائل العربية فيها , أو هي أشبه بتظاهرة للدين الجديد خارج الحجاز , وفي ضوء ذلك لانعدم سبباً موضوعياً لتخلف عليّ عن هذه الحملة وفقاً لارادة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) لاسيما وأن الروايات التاريخية تلمح الى تحرّك للمنافقين مجدداً في المدينة ... وهو ما قد يسوّغ مرة أُخرى بقاء علي والأنصار في المدينة للقيام بهذه المهمة الصعبة.(2) وقد خصه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بما شهد له باعظم الصفات وأعلى الدرجات مما لم يحظ غيره من الصحابة أجمعين بمثله , كقوله (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( أنت أول المؤمنين بالله إيماناً وأوفاهم بعهد الله وأقومهم بأمر الله وأرأفهم بالرعية وأقسمهم بالسوية وأعلمهم بالقضية وأعظمهم مزية يوم القيامة (3)

وجاءت حجة الوداع وما تبعها من أحداث لعل أخطرها هبوط الوحي بقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(4).

ص: 36


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ... الحديث 57 ص188 . ذكره 204 مصادر .
2- الدكتور ابراهيم بيضون / المصدر السابق ص41-42 .
3- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 6 .
4- سورة المائدة الآية 67 .

والمتدبر لمحتوى هذه الأوامر الألهية يقف مشدوهاً لشدّة الطلب , والمعادلة الصعبة بين الرسالة ككل وتنفيذ الأوامر الجديدة والمقترنة بالتعهد الالهي بالحماية من الناس الذين يعلم الله تعالى سرائرهم , وردّة فعلهم في مثل هذه الأمور الخطيرة .

ولكي يسمع أكبر عدد من المسلمين نص التبليغ نزل الركب النبوي في مكان إنْ تجاوزه إنفصل عنه كثيرٌ من الناس الى بلدانهم وأماكنهم , فأراد الله أن يجمعهم فيه إنه (( غدير خم )) وقد وصف المشهد كثير من المؤرخين ونقلوا تفاصيل ماجرى . والخلاصة : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أمر بإعداد ما يرتقي عليه فصُنع له مرتفع من أحداج الأبل فصعده وصعد معه علي بن أبي طالب , وخطب الناس فحمد الله واثنى عليه ووعظ فأبلغ ونعى إلى ألأُمّة نفسه ... ثم نادى بأعلى صوته : ألست أولى بكم منكم بأنفسكم ؟ قالوا : اللهم بلى , فقال لهم : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه , اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . (1)

وعلى الرغم من تقديم التهاني لعلي (عليه السلام) من قبل الحاضرين كافة , الاّ أن الأمر قد سجّل بداية الفصل الجديد في حياة الاسلام والمسلمين , وبدأ التخطيط السرّي للحياة السياسية وادارة شؤون الدولة المسلمة بعد إلتحاق النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بالرفيق الأعلى . وقبل أن يوارى جثمان الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) حُسم الأمر بالصورة التي جعلت أبا بكر خليفة لرسول الله وحاكماً للدولة الفتيّة .

ص: 37


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص 119 .

ولا نريد هنا الوقوف على ملابسات الأمور فقد تصدى لها جملة من الباحثين بين مؤيد ومخالف , مع إختلافهم في تخريج المعاني التي تضمنها قول الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) (( من كنت مولاه ... )) والذهاب بها بشكل سافر الى ما يتقاطع مع ظروف الحدث والأمر الالهي الشديد اللهجة , وما رواه كثير من الصحابة ووثقّه الشعراء , ولكن للسياسة وجه آخر ولغة أُخرى .

وهناك حقيقة أكدها الرواة والمؤرخون تفيد بأن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) كان يهيئ الامام علي (عليه السلام) لقيادة الأُمّة من بعده , فتولّى إعداده تربوياً وعلمياً وفروسية , ولم يترك مناسبة إلاّ وقال فيها ما يرفع قدره , ويمّيزه عن كافة الصحابة بأقوال كان بعضهم يتمنى منها قولاً واحداً . كما أن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أكد عملياً علو منزلة علي (عليه السلام) في أكثر من مناسبة : في المباهلة , وفي تبليغ سورة براءة وقبلها في رد الودائع بعد هجرة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) كما أنه (صلی الله علیه و آله وسلم) لم يؤمّر عليه أياً كان في جميع حروبه وغزواته التي شارك فيها علي (عليه السلام) وكانت راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بيده . ولو وقفنا على بعض ماقاله رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بحق علي وَحْدَهُ لعرفنا من هو الذي مثّل الإيمان كلّه , ومن ضربته تعدل عبادة الثقلين , ومن هو أخو رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في الدنيا والاخرة , ومثل هذا كثير ...

ومن باب الاكتفاء بالاشارة الى مجمل حياة أمير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) في فترة الخلفاء الراشدين الذين سبقوه , نقول : كان إختيارهالإنعزالوالاهتمام بجمع القرآن ؛ ومع ذلك فانه كان الأحرص على سلامة الدين والدولة الجديدة , فلا يبخل بمشورة أو نصح ولم يستغنِ الخلفاء ( ابو بكر وعمر وعثمان ) عن مشورته واللجوء الى رأيه وقت الملمات , كما أنه

ص: 38

لا يسكت على فعل يسيئ للرعية , فيصحح الاحكام وقد يباشر تطبيق حدود الله بنفسه ما وسعه ذلك .

علي عليه السلام والإمامة

في القرآن المجيد , قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1) ولتحقيقهذا المعنى ينبغي أن يصل إلى المكلفين ليأخذ طريقه للتنفيذ , فلا بد من مبلّغ . فبعث الله تبارك وتعالى الرسل والأنبياء , يحملون ما يريده العلي الأعلى من تعاليم تحاكي مدارك الناس ومستوى عقولهم لتحقيق الهدف الأعظم المتمثل بتوحيد المعبود وامتثال أوامره ونواهيه .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإسلام خاتم الأديان , وأن يكون القرآن آخر الكتب السماوية , فلا كتاب بعد القرآن ولا رسول أو نبي بعد محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) .

ومهما يكن إعتقاد الناس بالبقاء الحي على الأرض , واجتهادهم في الوصول إلى ما يطيل مدته , فإنهم ميتّون . قال تعالى : «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا»(2) وأكد قوله سبحانه فقال : «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ»(3) أي أن الموت لايستثني أحداً حتى الرسل والأنبياء . وقد أخبر الجليل سبحانه وتعالى نبيّه الكريم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بذلك قائلاً : «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(4)

ص: 39


1- سورة الذاريات ألآية 56 .
2- سورة النساء ألآية 78 .
3- سورة الرحمن ألآية 26 .
4- سورة الزمر ألآية 30

ومات محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ؛ فما هو مصير الإسلام بعده ؟ هل يرتفع اللطف الإلهي بموته (صلی الله علیه و آله وسلم) أم أن هناك من يقود المسيرة ويحقق وصول الرسالة الخاتمة إلى الناس كافة ؟

ويقيناً إنّ العناية العليا قد هيأت القائد الذي يتصف بصفات النبي إلاّ أنّه ليس بنبي . قال تعالى : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(1)

وبلغ الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله وسلم) عند منصرفه من حجة الوداع وفي غدير خم قائلاً للجموع المرافقة له بعد خطبة اقتضاها الأمر : (( من كنت مولاه فعلي مولاه ... )) (2)وبهذا أفرغ الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) مهامه الرسالية لمن يكمل المسيرة بعده , وحدد الولاية العامة على المسلمين كافة لعلي بن أبي طالب رضی الله عنه .

والحقيقة إنّ علياً (عليه السلام) كان مؤهلاً بالشكل التام لهذه المهمة باعتراف المسلمين قادة ورعيّة , وإنّ هذا التأهيل لم يكن برغبة شخصية من رسول لله فحسب وإنما كان معززاً برغبة الله جل جلاله . ففي متابعة للحيثيات التي اقتضاها بزوغ فجر الرسالة , نجد أنّ الله تبارك وتعالى قد هيأ المعجزة الكبرى – القرآن المجيد – واصطفى للدين الجديد رسولاً هو صفوة الخلق كمالاً وأخلاقاً واقتدارً عالياً . وقد استطاع بعد الجهد والجهاد أن يوصل الرسالة إلى حد الختام وينال رضا الله تعالى بتنفيذ آخر ما أُنزل إليه من أمر ربه , فقال

ص: 40


1- سورة المائدة ألآية 67 .
2- الفتلاوي / الكشاف المنتقى / الحديث 208 ذكره مائة وإثنان وسبعون مصدراً .

سبحانه وتعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1) وكان ذلك بعد إعلان الولاية لعلي عليه السلام .

ولم تكن ألولاية كما يتصورها بعضهم منصباً للحكم ومنزلة لإدارة شؤون دولة الإسلام فقط وإنما هي إمتداد لمنصب النبوة , إنّها الإمامة . فلا يمكن أن يترك الدين عرضة للأهواء والإجتهادات فكم من آية من متشابه القرآن تحتاج إلى تأويل وإيضاح , وكم من مسألة مستحدثة تحتاج إلى حلٍ وتقرير , فالناس مهما بلغوا من العلم والفطنة فإنهم دون مستوى تلاميذ الوحي , وأقل إحاطة ببواطن الشريعة المقدسة . قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(2) وثبت بالإجماع أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قد نصَّ بأحاديثه الشريفة على مَن هو رأس الراسخين في العلم بقوله (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( علي باب علمي ومبيّن لأُمتي ما أُرسلت به من بعدي .. )) رواه أبو ذر (3)وعن إبن عباس عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : (( علي عيبة علمي )) (4)ومن أقواله (صلی الله علیه و آله وسلم) المشهورة : (( أنا مدينة الحكمة وعلي بابها )) (5) و (( أنا مدينة العلم وعلي بابها )) (6)وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) (( أنا وعلي حجّة الله على عباده )) (7) ويعضد هذه الأحاديث الشريفة قول علي أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( إنّ بين جنبيَّ لعلماً جماً لو أَصبت له حملة )) (8) (( سلوني قبل أن تفقدوني , هذا سفط العلم , هذا لعاب رسول الله

ص: 41


1- سورة المائدة الآية 3 .
2- سورة آل عمران لآية 7 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى / الحديث 117 ذكره ثلاثة عشر مصدراً .
4- المصدر السابق الحديث 122 ذكره تسعة عشر مصدراً .
5- المصدر السابق الحديث 46 ذكره إثنان وخمسون مصدراً .
6- المصدر السابق الحديث 49 ذكره إثنان وتسعون مصدراً .
7- المصدر السابق الحديث 50 ذكره عشرون مصدراً .
8- إبن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 38 .

, هذا ما زقَّني به رسول الله زقا فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين )) (1) .

وأمّا مهمة التأويل التي أكدها رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وأعطاها أهمية بالغة في حديثه الشريف , فقد حصرها (صلی الله علیه و آله وسلم) بشخص علي عليه السلام , فعن أبي سعيد الخدري 0 قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله , فقال فلان أنا .. وقال فلان أنا .. قال (صلی الله علیه و آله وسلم) : لا ولكن خاصف النعل , وكان أعطى علياً نعله يخصفها )) (2)أي أنه (صلی الله علیه و آله وسلم) قد أخبر بأن الرسالة سوف تتعرض لمخاطر وتحدّيات وفهم منقوص يتجافى مع الحقيقة التي أرادها الله سبحانه ؛ وعليه لابد من مؤهل يتصدى لمثل هذه الأُمور ويتولى كشف الحجب عن مكنون آيات الكتاب , ودفع احتمال الخلط بين الحقيقة وخلافها , وأن يحسن تأويل مبهماتهومتشابهه إلى حد المواجهة والدفاع بالسيف عن سلامة الشريعة المقدسة . وحيث لا نبيّ بعد رسول الله محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) فينبغي أن يخلفه المتقدم على غيره بما تحتاجه الرئاسة العامة , وتتوفر فيه كامل الصفات , حتى يستحق أن يكون إماماً . عِلماً بأن الإمام لا يوحى إليه كالنبي وانما يتلقى الاحكام من النبي مع تسديد إلهي , فالنبي مبلغ عن الله والإمام مبلغ عن النبي (3).

فمن يا ترى يختار هذا الإمام ؟ هل هو من اختصاص الجمهور أم هو خاص بالسماء ؟

وللجواب على هذا السؤال نعيد إلى الأذهان إختيار الأنبياء والرسل وهم المكلفون بحمل الرسالة إلى الناس سواء لبعضهم أو للبشرية جمعاء فهل

ص: 42


1- المصدر السابق 2 : 44 – 45 .
2- الفتلاوي / الكشاف المنتقى الحديث 42 ذكره ثمانية واربعون مصدراً .
3- محمد حسين كاشف الغطاء / أصل الشيعة أُوصولها ص 98 .

ثمة معلومة تفيد بأن للناس رأياً في اختيارهم ؟ الجواب : كلا . فالنبوة منصب إللهي و «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ»(1) أما مَن يخلف النبي – وخاصة خاتم الأنبياء الذي ليس بعده نبي , فهو مكلّف باتمام المهمة وإيصال نور الرسالة إلى الناس وإلى الذين لم تصلهم الدعوة , كما هو مسؤول عن إدامة زخم الوعي وترسيخ الإيمان ومواجهة الردّة التي أشار اليها القرآن المجيد بقوله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»(2) فهو بهذه الحال أكبر من أن يناط إختياره لمن هم دون مستوى الإختيار التام فلا يجمعهم جامع العلم بمؤهلات الإمام الذي هو الأعلم بالأحكام والأقدر على إقامة الحدود والأمثل في مواجهة الخصوم والأشجع في ميادين القتال ورد كيد المعتدين بالحجة ثم بالسيف , ولا يحتاج لغيره في كل شيء . ان المنصب الجديد منصب خطير , لا يقل أهمية عن منصب النبوة , فهو إمتداد طبيعي له , وليس مقبولاً أن يترك أمر اختياره لخليط من الآراء المتنافرة والأهواء المتصارعة والمصالح المتشابكة ؛ علماً بأن الإنقلاب الذي ذكره القرآن المجيد قد حصل فعلاً , وإنّ أخلاق وأعراف الجاهلية المرفوضة لم يقض الإسلام عليها جميعاً فلا يمكن والحال هذه أن نتصور إرتقاء اختيار الناس إلى مستوى إختيار الله سبحانه وتعالى فهو «أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(3) وعليه نقول : إنّ الله قد اختار لمنصب الإمامة الكفؤ الذي اثبتت الوقائع أنه الأقدر , وقد أكد الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) بقوله : (( علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض )) (4).

ص: 43


1- سورة الأنعام الآية 124 .
2- سورة آل عمران الآية 144 .
3- سورة هود الآية 5 .
4- الفتلاوي / الكشاف المنتقى / الحديث 124 ذكره سبعة وعشرون مصدراً .

ولو إستعرضنا سيرة من اختارهم الجمهور – مع علو قدرهم وبذلهم الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح (1)- فسوف نجد تبايناً في الأحكام واختلافاً في الإجتهادات وفي السياسة الماليّة والإدارة المدنية والتوجيهات المرحلية , ونجد الإعتراف الجميل من قبل الخليفة أبي بكر الصديق بقوله : (( أني وليت عليكم ولست بخيركم فإن إستقمت فاتبعوني وإن زغت فقوموني )) (2)

. ومثله فعل الخليفة عمر بن الخطاب فاعترف بقوله المشهور لولا علي لهلك عمر . أمّا الخليفة عثمان بن عفان فقد انفرد بسيرة انتهت بأن خسر حياته وذلك بسبب عدم وضوح النوايا وتسلط أقاربه ومريديه على موارد الدولة ومصالح الناس , فلو كان الإختيار عن طريق الخبير البصير سبحانه وتعالى لما حصل ما حصل . والدليل على ذلك هو سيرة الأئمة الاثني عشر الذين حددهم رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بقوله : (( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى إثني عشر خليفة كلهم من قريش )) (3)وعن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبي عند النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فسمعته يقول : بعدي أثنا عشر خليفة , ثم أخفى صوته , فقلت لأبي : ما الذي أخفى صوته ؟ قال : كلهم من بني هاشم (4)والنبي (صلی الله علیه و آله وسلم) يتبع وحي السماء «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى»(5) تلك السيرة التي هذبها الإيمان وارتضاها الرحمن , ويقف المخالف قبل الموالف إجلالاً وإكبارً لاستقامتهم وعدالتهم على الرغم من اقصائهم عن مراكز القيادة السلطوية وإضطهادهم ..

علي (عليه السلام) ومنصب الخلافة

اشارة

ارسى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أُسس الدولة المدنية بالصورة التي تحقق الإستقرار والتعايش السلمي بين المهاجرين والانصار وفق الأحكام القرآنية والسنّة النبوية

ص: 44


1- محمد حسين كاشف الغطاء / أصل الشيعة واصولها ص86 .
2- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 117 .
3- علي دخيّل / الامام أمير المؤمنين ص31-32 .
4- المصدر السابق ص32 عن ينابيع المودّة 445 أولهم علي وآخرهم القائم المهدي .
5- سورة النجم الآية 3 .

المنظمة للوضع الاجتماعي والاقتصادي .وبعد أن دانت له (صلی الله علیه و آله وسلم) مكة والطائف واليمن , وأَنهى الوجود التآمريوالمواجهة المسلحة مع اليهود والقبائل المتحالفة معهم ومع مشركي قريش , وشاء الله تبارك وتعالى أن يتم نعمته على رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) باكمال الدين , ومن ثم ختام دور الرسول بالانتقال الى دار البقاء , قال تعالى «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ»(1) فأراد أن يوثق رغبة السماء في تحديد الولاية التي أعلنها في غدير خم ,- على الأرجح - ولكن حالت الظروف دون ذلك . وتوفي رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) . وتولى أبو بكر الصديق منصب الخلافة ...

ومرّت فترة خلافة أبي بكر وكانت قصيرة بدأت يوم الأثنين لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وتوفي يوم الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة . ولم يترك منصب الخلافة فارغاً ... بل استخلف عمر بن الخطاب الذي دامت خلافته من يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة وطعن الخليفة عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فكانت ولايته عشر سنين وثمانية اشهر, وكان قد استحدث طريقة جديدة لاختيار من يخلفه سميت بالشورى يتم بها انتخاب واحد من ستة اشخاص هو اختارهم وهم ( علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان والزبير بن العوّام وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ) والذي يدعو للتساؤل هو : لماذا ستة ؟ قال الخليفة عمر : إنّ رسول الله مات وهو راضٍ عن هذه الستة من قريش ! ثم وضع لعملية الاختيار شروطاً غير مسبوقة حيث استعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري وقال : إن رضي أربعة

ص: 45


1- سورة الزمر الآية 30 .

وخالف إثنان فاضرب عنقي الأثنين , وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ! وان جازت الثلاثة أيام ولم يتراضوا بأحد فاضرب أعناقهم جميعاً . وعندما أزف الموعد أو كاد , طرح عبد الرحمن بن عوف شرطاً مرتجلاً , فطلب من علي (عليه السلام) أن يتولى الخلافة بشرط أن يسير بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة ابي بكر وعمر . في حين أن عبد الرحمن بن عوف يعلم – وهو من المعايشين لسيرة الشيخين – أن عمر لم يسر على ماكان ابو بكر يسير بالناس , كما يعلم الى حد ما أن علياً لا يوافق بشرطه .. , وعندما توجّه بشرطه الى عثمان أجاب بالايجاب , فبايعه عبد الرحمن وبايعه المسلمون (1).

والشيء بالشيء يذكر , فقد ذكر اليعقوبي محاورة بين الخليفة عمر إبن الخطاب وعبد الله بن عباس تؤكد معرفة الخليفة عمر بأحوال الستة الذين جعلهم شورى . وفي الحكاية عبرة يحسن بنا الوقوف عليها : ( روي عن إبن عباس قال : طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل فقال : أُخرج بنا نحرس نواحي المدينة ... حتى أتى بقيع الغرقد , فاستلقى على ظهره وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتأوه صعداء , فقلت له يا امير المؤمنين , ما اخرجك الى هذا الأمر ؟ قال : أمر الله يا أبن عباس . قال : قلت إن شئت أخبرتك بما في نفسك . قال : غص يا غواص إن كنت لتقول فتحسن . قال : قلت ذكرت هذا الأمر بعينه والى من تصيّره , قال : صدقت , قال : قلت له : أين أنت عن عبد الرحمن ابن عوف ؟ فقال : ذلك رجل ممسك وهذا الأمر لايصلح الاّ لمعطٍ في غير سرف ومانع في غير إقتار . قال : قلت سعد بن

ص: 46


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 150-151 .

أبي وقاص ؟ قال : مؤمن ضعيف . قال : قلت طلحة بن عبيد الله , قال ذاك رجل يناول للشرف والمديح يعطي ماله حتى يصل الى مال غيره , وفيه بأو وكبر . قال : قلت فالزبير بن العوام فهو فارس الاسلام , قال : ذاك يوماً إنسان ويوماً شيطان وعقة لقس ان كان ليكادح على المكيلة من بكرة الى الظهر حتى تفوته الصلاة . قال : قلت عثمان بن عفان , قال : إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أُمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله , ولئن ولي ليفعلن , والله لئن فعل لتسيرن العرب إليه حتى تقتله في بيته , ثم سكت . قال : فقال إمضها يا ابن عباس أترى صاحبكم لها موضعاً ؟ قال : فقلت : وأين يبتعد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه ؟ قال : هو والله كما ذكرت ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق فاخذ المحجة الواضحة الاّ أن فيه خصالاً : الدعابة في المجلس وإستبداد الرأي والتبكيت للناس مع حداثة سن . قال : قلت يا أمير المؤمنين هلا استحدثتم سنّة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبد ود وقد كعم عنه الأبطال وتاخرت عنه الأشياخ , ويوم بدر إذ كان يقط الأقران قطاً , وهلا سبقتموه بالاسلام .. فقال : إليك يا ابن عباس أتريد أن تفعل بي كما فعل أبوك وعلي بأبي بكر يوم دخلا عليه ؟ .. فقال : والله يا ابن عباس إنّ علياً إبن عمك لأحق الناس بها ولكن قريشاً لا تحتمله , ولئن وليهم ليأخذهم بمرِّ الحق لا يجدون عنده رخصة , ولئن فعل لينكثُنّ بيعته ثم ليحاربن (1).

وهنا وبكامل الموضوعية نتوجه بالسؤال الى الخليفة عمر بن الخطاب : كيف أعتمدت الشورى بهؤلاء الذين وصفت كل واحد منهم وأظهرت ما عليه

ص: 47


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 148 – 149 .

من صفات لا يصلح بها للخلافة ؟ وكنت تعلم من هو الأصلح فقرنته بهم وليس بين المسلمين من يرد لك أمراً كما ليس بين المسلمين المنصفين من يرفض ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

وأثار إبن ابي الحديد أمرين مهمين :- الأول : قوله : وروى القطب الراوندي أن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها , قال إبن عباس لعلي (عليه السلام) : ذهب الأمر منّا , الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان .. والأمر الثاني : قال علي (عليه السلام) : وأنا أعلم ذلك , ولكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهّلني الآن للخلافة , وكان قبل ذلك يقول : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : إن النبوة والأمامة لا يجتمعن في بيت ...(1).

وتسلم عثمان بن عفان السلطة , وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة ... ولسنا بصدد الحديث عن سيرته , وما تحقق في أيامه من أفعال قد أجمع المؤرخون على أنها أحدثت تراجعاً عن الوسطية وعدم الوفاء بتعهده في ان يلتزم بسيرة الشيخين وخاصة في النصف الثاني من مدة حكمه والذي واجه فيه أعلى درجات المعارضة من ناحية السياسة المالية والادارية , وتغليب أبناء اسرته على الاغلبية المطلقة من الناس مما دفع بعض المتحمسين للثورة , مطالبين بالاصلاح , وحين تعدت الأمور حد التحمل لدى المتطرفين كانت النتائج وخيمة , وقد اسفرت عن مقتل الخليفة عثمان بن عفان , ومن ثم إجبار الإمام علي (عليه السلام) باستلام السلطة (( فاستخلف (عليه السلام) يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين , وبادر إلى عزل عمال

ص: 48


1- شرح نهج البلاغة 1 : 189 .

عثمان عن البلدان ... (1) واختلف معه (عليه السلام) طلحة والزبير , ولم يرض أم المؤمنين عائشة تولي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) الخلافة واصطرعت الأهواء والمصالح وكان ما كان من إشعال نار الفتنة وواقعة الجمل ..

معركة الجمل :

لا جديد في إعادة تفاصيل أحداث المعركة المشهورة التي تسبب فيها حب التسلط والشعور بالندّية التي خلفتها قضية الشورى لدى طلحة والزبير , وطالبا الخليفة المنتخب بالشراكة في السلطة فقال (عليه السلام) لهما : أنتما شريكاي في القوة والإستقامة وعوناي على العجز والأود (2) فلم يرق لهما ذلك , فخرجا إلى مكة بحجة العمرة , والتقيا بزوج النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) (( عائشة )) وناصرهما معاوية بن ابي سفيان والمخدوعون بالإعلام الأموي , وتوجهوا إلى البصرة , فالتقى جيشهم بجيش الامام علي في المعركة المعروفة في التاريخ الاسلامي , بمعركة الجمل لأن – أم المؤمنين عائشة –كانت على جمل في منتصف الميدان , وقد قتل تحت أقدام جملها آلاف المدافعين عنها , وقتل طلحة وقتل الزبير , واندحر جيش البصرة , وختمت واقعة الجمل بعفو أمير المؤمنين عن المقاتلين وعن قادة الغدر والنكث , واكرم عائشة بأن (( جهزها بكل شيء ينبغي لها من مركب أو زاد او متاع , وأخرج معها كل من نجا ممن خرج

ص: 49


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 168 .
2- المصدر السابق 2 : 169 .

معها , واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات يرافقنها في طريقها الى حيث تشاء(1) .

وأفرزتمعركة الجمل , والنصر الذي تحقق للامام علي (عليه السلام) حدثاً مهماً حيث اتخذ الامام مدينة الكوفة عاصمة لحكمه بدلاً من المدينة المنوّرة لأسباب جوهرية تتواءم مع الرؤية الجديدة له (عليه السلام) في مواجهة الصراعات والتناقضات التي أُثيرت بعد مقتل الخليفة عثمان , والتصدي لتمرد معاوية إبن أبي سفيان في الشام بقربه الجغرافي منه , إضافة إلى الإستفادة من البيئة الجديدة لتطبيق المشروع الاصلاحي , الاجتماعي والاقتصادي الذي يعود بالأمة الى السيرة النبوية الشريفة على يديه وفق رؤيته المرحلية .

ولم يطل الوقت في الكوفة حتى تهيأ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمواجهة معاوية بلغة السيف بعد أن عجزت كل اللغات في إعادته إلى جادة الحق , وهو يعلم اين الحق ومع من , ولكنه يأمل في الوصول الى السلطة بأي ثمن ما دام يمتلك جيشاً مطيعاً واقتداراً عالياً من المال والسلاح والمكر والخداع , وململمة من المنافقين الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ,. ويبيعون الفتاوى التي يريدها معاوية ويتجاوب معها المخدّرون من جند الشام , فكانت معركة صفين.

ص: 50


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 544 .

معركة صفين :

وهي من المعارك الكبرى بين أهل العراق – جند أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) - واهل الشام – جند معاوية بن ابي سفيان –

والحديث عن معركة صفين يمكن أن يُختصر بملحظين إثنين , وكل ملحظ يشتمل على سفرٍمطوّل من المعاني والعبر من طول فترة المعركة وكثرة القتلى والجرحى فيها من كلا الجيشين , وتعدد المواقف المتقاطعة والمفارقات التي كتب فيها نصر بن مزاحم المنقري كتاباً ضخماً , وكتب غيره الكثير .

الملحظ الأول : ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في نعت جيش الشام بالفئة الباغية , وذلك يوم كان عمار بن ياسر يعمل مع المهاجرين والانصار في بناء مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) الأول بالمدينة , قال ابن هشام : (( فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللَّبن فقال : يا رسول الله قتلوني , يحملون عليَّ مالا يحملون , قالت أم سلمة زوج النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ينفض وفرته بيده وهو يقول : ويح ابن سمّية ليسوا بالذين يقتلونك , إنما تقتلك الفئة الباغية )) (1). فهل يحتاج معاوية ومن سار في ركابه وأتمر بأمره دليلاً على بغيهم في قتالهم لعلي وقتلهم لعمار ؟ هل هناك من يرد قول النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) ؟ وإنْ أظهر بعضهم من اللؤم والحذلقة ما أدعى أن الذي قتل عمار هو من جاء به إلى المعركة , وهو بهذا يغالط الواقع فلم يكن عمار بعيداً يوماً عن علي وعن الوقائع التي خاضها سواء في زمن الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) أو في المعركة التي سبقت صفين – معركة الجمل – فقد كان عمار (رضی الله عنه) في وسط آتونها . إنها من حركات الالتفاف والتدليس على جند الشيطان خوفاً من تصدع صفوفهم .

ص: 51


1- السيرة النبوية 2 : 142 .

والملحظ الثاني : (( إنّ علياً دعا بشير بن عمرو بن محصَن الانصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي , فقال : إئتوا هذا الرجل فادعوه الى الله والى الطاعة والجماعة ... ؛ وحين تكلموا معه , قال معاوية : ونترك دم عثمان ! لا والله لا أفعل ذلك أبداً ... فبادره شبث بن ربعي فتكلم , وقال : يا معاوية , إني قد فهمت ما رددت على إبن محصن , إنّه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب , إنّك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم الاّ قولك : (( قُتل إمامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه )) فاستجاب لك سفهاء طغام , وقد علمنا أنْ قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب , ورُبَّ متمني أمر وطالبهِ , الله عز وجل يحول دونه بقدرته , وربما أوتي المتمني أُمنيته وفوق أُمنيته , ووالله ما لك في واحدة منهما خير , لئن أخطأت ما ترجو انك لشر العرب حالاً في ذلك , ولئن أصبت ما تتمنّى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صُلِيَّ النار , فاتق الله يا معاوية , ودع ما انت عليه , ولا تنازع الأمر أهله )) (1).

ص: 52


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 573 – 574 .

الحرب الباردة بين علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية بن ابي سفيان في الرسائل المتبادلة بينهما

لم يكن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حاكماً فحسب بل إماماً وهادياً , وحين جاءت الخلافة إليه منقادة , وفُرضت عليه فرضاً بدأ بتطبيق ما يريد من صورة الحكم وحقيقته متخذاً من سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) منهجاً ودليلاً , لا تأخذه في إحقاق الحق لومة لائم , ولا تمنعه مصلحة شخصية ولا تثنيه قوة خارجية , وبدأ أولاً بتصفية مخلفات العهد السابق لكي يعيد الحقوق إلى أهلها ويقيم دولة العدل والمساواة باسترجاع ما سلبه الولاة والأُمراء وأعوانهم من الأرض والمال , وأبدى إهتماماً ظاهراً في تغيير الولاة واستبدالهم بالنخبة الذين وجد فيهم المؤهلات المطلوبة أو المتوقعة في وقتها ,ولم يستجب (عليه السلام) لمقترحات بعض أصحابه في الصبر على من لم يكن صالحاً لمهمته لحين إعلان بيعتهم وتعهداتهم بالالتزام والسير على المنهج الجديد , وكان جوابه : (( لا أُداهن في ديني ولا أُعطي الدنية في أمري )) (1).

وكان معاوية بن أبي سفيان أمير الشام قد رفض البيعة . وقبل البدء في الحديث عن (( الحرب الباردة )) يحضرني هنا تعليق يمهد للموضوع ويؤسس للفكرة التي أثمرت ذلك الرفض . وأرى أن الأمر ولد بولادة يوم الغدير الغني عن التعريف . فإنّ الراغبين في تسلم القيادة بعد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) كانوا على درجة عالية من الحيطة والحذر في إبعاد علي بن أبي طالب عن طريقهم وكانت الفرصة مواتية حيث إنشغال الامام ومن يناصره بتجهيز الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) ودفنه , مما سهل المهمة وابرام الصفقة . والظاهر أن النيّة كانت معقودة على أن لا يصل الامام علي (عليه السلام) الى سدة الحكم نهائياً فلو وليها فسوف لن تخرج من البيت الطالبي حسب ظنهم . ولتحقيق ذلك لابد من إيجاد عدوٍ

ص: 53


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 440 – 441 .

تاريخي للامام علي قادر على إنجاز المهمة وليكن من الأمويين الموتورين ليلعب الدور . أي أنّ ما حصل لم يكن من قبيل الصدفة – على الأرجح - .

نعم , لم يكن صدفة بل طبخة سياسية على نار هادئة , وكانت البداية في تولية معاوية بن أبي سفيان على الشام وتولية أخيه يزيد على الأُردن , فلما توفي يزيد أُضيف الأردن إلى معاوية , ولما تولى عثمان الخلافة أقّر معاوية على ما في يده وأضاف إليه ولاية فلسطين , وبعدها ولاية حمص , فاصبحت لدى معاوية أربعة أمصار بأربعة أجناد وهي أعظم قوة لوالٍ في الخلافة الاسلامية , وقد شكل الطابور الأموي في صفوف السلطة الحاكمة قرابة ثلث الموظفين والعاملين في مختلف مرافق الدولة , على العكس من الهاشميين , فلم يتولَ هاشمي منصباً في الدولة خلال فترة الخلفاء الراشدين الثلاثة , حيث مورست ضدهم سياسة الإقصاء والتهميش (1). وحين أوصل الأمويون الأمور إلى حيث تثور الجماهير على الخليفة عثمان وتقتحم عليه داره وتقتله دون ان تمد له يد العون التي كان عثمان يعوّل عليها ويعتمدها وكان بمقدورها حمايته واخماد الثورة التي أطاحت به . ولكن : هكذا أرادها معاوية ومروان بن الحكم الوزير الأول وحامل خاتم الخليفة عثمان , أراداها فتنة يتسلقون من خلالها الى منبر رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) المحرّم على أبناء الطلقاء , ولولا الأغلبية الثائرة في المدينة المنوّرة التي فوتت عليهم الفرصة وفرضت الخلافة فرضاً على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكانت النتائج كما خطط لها . ومع ذلك , ومن منطلق الإقتدار الذي يعتقده معاوية لم يستسلم , وأعلن المطالبة بدم الخليفة عثمان متّهماً الامام علي بالقتل أو بالتواطؤ وحماية القتلة ....

ص: 54


1- من حديث الشيخ القاضي محمد كنعان مستشار المحكمة الجعفرية العليا في بيروت . بثته قناة كربلاء الفضائية مساء يوم الأحد 21 تموز 2013 .

والمعروف عن الامام علي (عليه السلام) أنه وفي أحرج المواقف وأقسى الظروف يقدّم التسامح , ومكاشفة الخصم بالحقائق , وعدم الرغبة في تأزيم الأمور مع علمه بشراسة الخصم وابتعاده عن الحق والعدل . ويعرف النوايا المبيتةوالدعاوى الباطلة , ولا يجهل درجة ولاء أهل الشام لحاكمهم الذي روضهم على حب الدنيا , وأبعدهم عن روح الدين وأخلاقه حين أشترى الضمائر وأخضع المتوثبين بقوة السيف ووطأة الحرمان وأفسد العقول وملأ الرؤوس بالأكاذيب والوضع والبهتان .

لقد عُرف عن الامام (عليه السلام) أنه يدعو إلى السلم حقناً للدماء , ويقدّم النصيحة ويتوسل بأسباب الوعظ والارشاد وإلقاء الحجة قبل اللجوء إلى أساليب العنف والمواجهة بالسيف , فكانت بينه وبين معاوية رسائل متبادلة ورسل , لإجلاء الحقائق , وكشف النوايا ... وقد بدأ معاوية بالكتابة الى علي (عليه السلام) كتاباً خالياً من لغة العقل , مليئاً بالألفاظ المبتذلة والادعاءات الباطلة والافتراءات المرتجلة , لا يريد منها الاّ إظهار الندّية والتهديد بالقوة حيث يقول:

سلام الله على من اتبع الهدى (1)أما بعد فإنّا كنّا نحن وإياكم يداً جامعة وإلفة أليفة حتى طمَعت يا أبن أبي طالب فتغيّرت (2)وأصبحت تعد نفسك قوياً على من عاداك بطعام أهل الحجاز وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السواد (3)وأيم الله لينجلينّ عنك حمقاها ولينقشعنّ عنك غوغاؤها إنقشاع

ص: 55


1- قال السيوطي في معاوية : أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم ( انظر تاريخ الخلفاء ص 194 ) فمتى عرف الهدى واتبعه حتى يلمز الاخرين بقوله سلام على من ابتع الهدى , وهل في أمة محمد كافة من عرف الحق واتبع الهدى اكثر وأسبق من علي (ع) ؟ وقد قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) علي مع الحق والحق مع علي , وقوله (صلی الله علیه و آله وسلم) علي مع القرآن والقرآن مع علي ( أنظر الحديث 123 والحديث 124 من الكشاف المنتقى ص 276 , 277 ذكرهما أكثر من 27 مصدراً ) .
2- أليس في هذا القول مجانبة للصدق ومخالفة للحقيقة فهل في حياة الامام علي موقف واحد يدل على أنه طمع وهو الذي طلّق الدنيا وان معاوية نفسه يشهد له بذلك حين قال : لو كان لعلي بيت من تبن وبيت من تبر لنفد تبره قبل تبنه . أمّا زهده بالخلافة فمن قوله (ع) دعوني والتمسوا غيري فانا لكم وزيراً خير مني لكم اميراً .
3- هل يصح أن يصدر مثل هذا الكلام البذيء والسباب لأُمة الأنصار والمهاجرين الذين بايعوا علياً من شخص مؤمن بالاسلام حقاً ؟ كلا بل هو ممن يبغض علي (ع) أي أنه من المنافقين على حد قول رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : لا يبغضك يا علي الاّ منافق .

السحاب عن السماء , قتلت عثمان بن عفان (1)ورقيت سلماً أطلعك الله عليه مطلع سوء عليك لا لك (2) وقتلت الزبير وطلحة (3)وشرّدت بأمك عائشة (4)ونزلت بين المصرين فمنيت وتمنيت , وخيّل لك أن الدنيا قد سُخّرت لك بخيلها ورجلها وإنما تعرف أُمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقية الاسلام فيحيطون بك من ورائك ثم يقضي الله علمه فيك والسلام على أولياء الله (5).

رد الامام علي (عليه السلام) على معاوية

رد الامام علي (عليه السلام) على معاو (6):

أما بعد , فقدّر الأمور تقدير من ينظر لنفسه دون جند (7)... فلعمري لئن كانت قوّتي بأهل العراق أوثق عندي من قوّتي بالله ومعرفتي به , فليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا (8)فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجد دون الهزل فإنّ في القول سعة (9) ولن يعذر مثلك فيما طمح أليه الرجال , وأما ما ذكرت من أنّا كنا واياكم يداً جامعة فكنّا كما ذكرت ففرق بيننا وبينكم , أن الله بعث رسوله منّا فآمنا به وكفرتم , ثم زعمت أني قتلت طلحة والزبير فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره , ولو حضرته لعلمته فلا عليك ولا العذر فيه اليك (10) وزعمت انك زائري في المهاجرين , وقد انقطعت الهجرة حين أُسر أخوك

ص: 56


1- إن معاوية أعلم من غيره بمن كان يحرّض على قتل عثمان كعمرو بن العاص وعائشة وطلحة و الزبير , ويعلم أن علياً لم يكن موجوداً حين قتل وحاشاه أن يتواطأ .
2- هل يتفق هذ الطعن المفترى مع قول رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى الاّ انه لا نبي بعدي . وقوله (صلی الله علیه و آله وسلم) : ذكر علي عبادة والنظر إلى وجه علي عبادة ..( انظر الحديثين 105 , 218 المرويين عن عائشة في الكشاف المنتقى للفتلاوي ص253 , ص408 ) .
3- اما الزبير فقد أعتزل الحرب وقتله إبن جرموز بعيداً عن ميدان المعركة وأما طلحة فخاض الحرب وقتله مروان بن الحكم بسهم , وقد أبّنه علي (ع) في ساحة المعركة .
4- وهذه مغالطة وكذبة تفضحها النصوص التاريخية .
5- وردت رسالة معاوية في كتاب الامامة والسياسة لأبن قتيبة صفحة 74 .
6- انظر : ابن قتيبة / الأمامة والسياسة ص57 .
7- وهنا يذكّر أمير المؤمنين , معاوية بضآلة قدره وأنه يتكلم بغير لسانه ويتطاول بغير كيانه .
8- وهنا يؤكد أمير المؤمنين أنّ معاوية يدّعي القوة بأهل الشام وليس عنده بالله تعالى يقين .
9- يريد أمير المؤمنين أنْ يغلّب لغة الحوار والتفاهم والوصول الى الصواب بعيداً عن لغة الحرب .
10- وهنا الرد المفحم , وأن معاوية يدعي مالم يعلم وانه لا يتورع من تصديق الاشاعات .

فان يك فيك عجل فاسترفه , وان أزُرْكَ فجدير أن يكون الله بعثتي عليك للنقمة منك .

ولكن معاوية قد ركب الموجة وبدأ الترويج للفتنة مغروراً بجند الشام وطاعتهم له ومحفوفاً بعصابة من المرتزقة والدهاة في الحيلة والغدر , ويرى ان هذه هي الفرصة التي لا تتكرر , وعليه إحكام قبضته على وسائل المواجهة والبدء بالعمل الفعلي . فارسل إلى الامام علي كتاباً , بعثه مع رجل من عبس وكان له لسان , فكتب معاوية على الكتاب عنواناً : (( من معاوية إلى علي ؛ وداخله : بسم الله الرحمن الرحيم لا غير )) فلما قدم الرسول دفع الكتاب الى علي , فعرف عليٌّ ما فيه وأنّ معاوية محارب له , وأنه لا يجيبه إلى شيء مما يريد (1) .

ولم تنقطع الرسائل المتبادلة حتى قطعها السيف في وادي صفين . ومن تلك الرسائل ما كتبه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان : (( أما بعد , فقد جاءني منك كتاب أمرئٍ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده , دعاه الهوى فأجاب , وقاده فاستقاده . زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان , ولعمري ماكنت الاّ رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا واصدرت كما أصدروا وما كان الله ليجمعهم على الضلال ولا ليضربهم بالعمى , وما أمرت فيلزمني خطيئة عثمان ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل . أما قولك إنّ أهل الشام هم الحكام على الناس , فهات رجلاً من قريش الشام يُقبل في الشورى أو تحل له الخلافة , فإن سميّت , كذّبك المهاجرون والأنصار والاّ أتيتك به من قريش الحجاز , واما قولك ندفع اليك

ص: 57


1- ابن قتيبة / الامامة والسياسة ص77 .

قتلة عثمان فمّا أنت وعثمان ؟ إنمّا أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولى بعثمان منك , فإن زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل في الطاعة ثم حاكم القوم اليَّ ... وأما ولوعك بي في أمر عثمان فو الله ما قلت ذلك عن حق العيان ولا عن يقين الخبر . وأما فضلي في الاسلام وقرابتي من رسول الله عليه الصلاة والسلام وشرفي في قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته (1) .

إن معاوية والحق على طرفي نقيض , وقد أثبتت الوقائع أن معاوية كان من جملة المشاركين في قتل الخليفة عثمان بطريق غير مباشر , لأنه كان بحاجة إلى قميصه الملطخ بالدم ليظلل به السذّج من اتباعه الشاميين ويستميل به الحاقدين على عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنهجه القويم الذي يشكل الامتداد الطبيعي لسيرة النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) , ويريد معاوية أن يعبر على جماجم الضحايا الى حيث تمنّيه نفسه , بغض النظر عن الوسيلة . وعندما مكنته الحيل وأساليب الغدر من الوصول الى الحكم لم يذكر دم عثمان ولم يسع للقصاص من قاتليه , كما أنه لم يجعل لأبناء عثمان الثمن الذي يعادل دم والدهم الذي لم يكن دماً رخيصاً فهو الخليفة الثالث في عداد الخلفاء الراشدين...

وبعد إستنفاد كل الوسائل السلمية والمحاكمات العقلية , كان لابد من الحسم ؛ فسار معاوية حتى نزل بصفّين ... وكتب إلى علي يخبره بمسيره (2)فكتب الامام علي (عليه السلام) إلى معاوية كتاباً , ومنه قوله : ... وإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله وسلم) وحقن دماء هذه الأمّة فإنْ قبلتم أصبتم

ص: 58


1- ابن قتيبة / الامامة والسياسة ص 91-92 .
2- المصدر السابق ص93 .

رشدكم وأهتديتم لحظّكم , وإنْ أبيتم إلاّ الفرقة وشق عصا هذه الأمة فلن تزدادوا من الله إلاّ بعداً ولن يزداد الرب عليكم إلاّ سخطاً , والسلام .

فكتب إليه معاوية : أما بعد , فانه :

ليس بيني وبين قيس عتابٌ *** غير طعن الكلى وضرب الرقاب

فقال علي : «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(1).

أما الحديث عن تفاصيل معركة صفين فقد تكرر ذكره وهو متيسر لمن يريده , ولكن : هناك بعض المواقف التي تستحق الذكر والوقوف عندها ملياً ومنها : القتال على الماء : تمكن جيش معاوية من الوصول الى شريعة الفرات قبل جيش علي (عليه السلام) فمنعوا أهل الكوفة من الشرب , فعن إبن الأحمر قال : لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلاً اختاروه ... أخذوا الشريعة فهي في أيديهم وقد صفّ أبو الأعور السُّلمي عليها الخيل والرجال وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء , ففزعنا إلى أمير المؤمنين فخبّرناه بذلك , فدعا صعصعة بن صوحان فقال له أئت معاوية وقل له : إنّا سرنا مسيرنا هذا إليكم ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار اليكم , وأنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك , وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك , وهذه أخرى قد فعلتموها , قد حلتم بين الناس وبين الماء والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين

ص: 59


1- سورة القصص الآية 56 .

الناس وبين الماء ... فقال معاوية لأصحابه ما ترون ؟ (1) وكان جوابهم بالرفض وقولهم لمعاوية إقتلهم عطشاً ,, وقال صعصعة لمعاوية : ما ترد عليَّ ؟ قال معاوية سيأتيكم رأيي . فوالله ما راعنا الاّ تسريته الخيل إلى أبي الأعور ليكفّهم عن الماء . قال : فأبرَزَنا عليٌّ إليهم , فارتمينا ثم اطّعنا ثم اضطربنا بالسيوف فنُصِرنا عليهم فصار الماء في أيدينا , فقلنا لا والله لا نسقيهموه , فأرسل إلينا علي : أنْ خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا إلى عسكركم وخلّوا عنهم فان الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم (2).

فهل يحتاج المشهد الى تعليق ؟ وهل ثمة وجه للمقارنة بين فعل علي وفعل خصومه ؟ فكل إناء بالذي فيه ينضح .

لقد إستغل معاوية قتل عثمان لينجز ما رُسم له ولكي يضع العصي والعثرات أمام الحكم الجديد علّه يصل إلى المقام المحرّم عليه وعلى أمثاله من أبناء الطلقاء . فعن الإمام الحسين (عليه السلام) قال : لقد سمعت جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان (3). فليس للدين موضع في وجدانه وليس لدم عثمان حرمة في منهاجه , ولقد استعان بالدهاة من أهل المكر والحيلة وبأموال المسلمين اشترى حفنة من المنافقين والمنحرفين كعمروابن العاص ومروان بن الحكم والوليد بن عقبة وعبد الله بن أبي سرح وامثالهم لتضليل البسطاء . وفي قول عمرو بن العاص لمعاوية خير دليل على مواصفاتهما الضلالية ونواياهما السوداء . قال عمرو : أمّا علي فو الله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء من الاشياء , وإنّ له في الحرب لحظاً

ص: 60


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 571-572 .
2- المصدر السابق 4 : 572 .
3- إبن طاووس / اللهوف في قتلى الطفوف ص11 .

ماهو لأحد من قريش الاّ أن تظلمه ؛ قال معاوية : صدقت ولكنا نقاتله على مافي أيدينا ونلزمه قتل عثمان . قال عمرو : واسوأتاه , إن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت , قال : لمَ ويحك ؟ قال : أمّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى أستغاث بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه , وأما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين . فقال معاوية دعني من هذا , مدَّ يدك فبايعني قال له عمرو : لعمر الله لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك (1).

وتسقط رايات معاوية , ويقترب قائد القوات العلوية مالك بن الحارث الأشتر من فسطاط معاوية ... يقول اليعقوبي : (( وزحف أصحاب علي (عليه السلام) , وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً حتى لصقوا به , فدعا معاوية بفرسه لينجوا بها , فقال له عمرو بن العاص : إلى أين ؟ قال قد نزل ما ترى , فما عندك ؟ قال : لم يبق الا حيلة واحدة أن ترفع المصاحف فتدعوهم إلى مافيها , فتستكفهم وتكسر من حدّهم وتفت في أعضادهم ؛ قال معاوية : فشأنك . فرفعوا المصاحف , ودعوهم إلى التحكيم , وقالوا ندعوكم إلى كتاب الله , فقال علي (عليه السلام) : إنها مكيدة وليسوا أصحاب قرآن (2) وكان النصر قريباً لولا خيانة الأشعث بن قيس الكندي الذي كان معاوية إستماله–إشتراه– وكتب إليه ودعاه إلى نفسه , فقال : قد دعوا إلى الحق ... والله لئن لم تجبهم إنصرفت عنك , ومالت اليمانية مع الأشعث , وقال الأشعث : والله لتجيبنهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنك إليهم برمتك . فتنازع

ص: 61


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 175 .
2- تاريخ اليعقوبي 2 : 178 .

الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً حتى كاد أن يكون الحرب بينهم ... فأجابهم علي (عليه السلام) إلى الحكومة (1) .

ومعلوم كيف جرت عملية إختيار الحكمين عمرو بن العاص من جانب معاوية وأبو موسى الأشعري الذي فُرض على الامام علي وقد سبق له أن نهى أهل الكوفة أن يخرجوا لنصرة علي في حرب الجمل فهو عدو قديم . وبعد المداولات التي أخذت شهوراً إتفق الحكمان على خلع الطرفين وجعلها شورى , فتقدم أبو موسى فخلع صاحبه – علي – فضحك عليه أبن العاص حيث خلع علياً وثبّت صاحبه معاوية , فكانت مهزلة وليست تحكيم . حتى أن أبا موسى الأشعري صاح بعمرو قائلاً : غدرت يا منافق إنما مثلك مثل الكلب إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . فقال عمرو بن العاص : إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً .

ومع أن التحكيم كان بضغط وتهديد من الأشعث ومن خرج معه من جيش علي على علي – الخوارج – فإن الخوارج أخيراً نادت : كفرَ الحكمان ولا حكم الاّ لله (2)وحمّلوا علياً مسؤولية القبول بالتحكيم الذي هم أيدوه بل فرضوه . (( وانصرف علي (عليه السلام) إلى الكوفة .. وصارت الخوارج إلى قرية يقال لها حروراء بينها وبين الكوفة نصف فرسخ وبها سموا الحرورية , ... وجعلوا يقولون : لا حكم الاّ لله . فلما بلغ علياً ذلك قال : كلمة حق أريد بها باطل . ثم خرجوا في ثمانية آلاف وقيل في إثني عشر الفاً واحتجوا على علي بأمور , فردّ عليها بما هو أهل به وأظهر ضعف حجتهم حتى تراجع ألفان ...

ص: 62


1- المصدر السابق 2 : 179 . وانظر : عباس محمود العقاد / عبقرية الامام علي (ع) ص92 , 95 .
2- المصدر السابق نفسه

والتحمت الحرب (( حرب النهروان )) فقتلوا من عند آخرهم , وقتل ذو الثدية ولم يفلت من القوم الاّ أقل من عشرة ولم يقتل من أصحاب علي الاّ أقل من عشرة . وكانت وقعة النهروان سنة تسع وثلاثين (1) .

وهنا يتساءل المنصفون عن الأسباب الموجبة لاثارة الحروب الطاحنة التي أتت على أُمّة من الصحابة والتابعين وخيرة الرجال من القرّاء والمفكرين والشعراءوالفرسان المجاهدين وكلها في فترة خلافة أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ! فلا جواب الاّ في سببين رئيسيين : الأول مجانبة الحق والعدل والتمرد على منطق الشريعة والبيعة الملزمة بغضاً لأمير المؤمنين الذي وترهم في معارك الاسلام وكرهاً لسيرته التي تتقاطع مع مصالحهم والتي تمثل الامتداد لسيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) .والسبب الثاني : ما تركته الشورى في نفس الذين قرنوا بعلي (عليه السلام) فصاروا يطمعون بالسلطان ويطلبون بل يسعون لسلب السلطة بالقوة فكانت معركة الجمل . ثم استغلال حاكم الشام مقتل عثمان بن عفان وادعائه ولاية دمه طريقاً للوصول إلى ألحكم بالسيف , فكانت معركة صفين . ولم تكن معركة النهروان الاّ بعض إفرازات معركة صفين , وكان معاوية والحزب الأموي وراء الانشقاق والخيانة , ودفع المتطرفين من الخوارج إلى الانتحار .

ص: 63


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 180 , 182 .

معاوية بن أبي سفيان وظاهرة التآمر على الخصوم

إقتضت ظروف نشر الرسالة المحمدية قبول رأس الشرك أبي سفيان بن حرب وزوجته هند ووحشي وامثالهم في جماعة المسلمين باعلانهم البيعة لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ولفظ الشهادتين وهم صاغرون , بعد أن إستنفدوا كل ما أوتوا من غلٍ وعدوان وحرب للاسلام والمسلمين , فقد جاء الفتح ومعه سماحة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) وعفوه عن هذه النماذج الضالة وعن أولادهم وأعوانهم وكان المفروض أن ينالوا ما يستحقون من العقاب ولكن صاحب الخلق العظيم أطلق سراحهم بقوله : إذهبوا فأنتم الطلقاء .

وتطوّع معاوية بن أبي سفيان للكتابة لدى الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) في مجال العقود والحسابات وما إلى ذلك , ولم يسمح له رسول الله بكتابة آية واحدة من القرآن المجيد لعلمه بخبث سريرته . وبالرغم من مكوثه كل تلك السنين بين الفقهاء والقرّاء والمفسرين الاّ أنه كان يجهل كثيراً من جواهر الدين واخلاقه , فقد (( قال للامام الحسن (عليه السلام) : يا أبا محمد , ثلاث خلال ما وجدت من يخبرني بهن , قال : وما هن ؟ قال – معاوية – المروءة والكرم والنجدة (1) وكان لمعاوية الحلم والدهاء ... كما أن أكثر فعله المكر والحيلة(2).

ووصفه أمير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) بأنه يغدر ويفجر (3). حتى مع أقرب الناس إليه فبدلاً من أن يكون درعاً حامياً لقريبه الخليفة عثمان

ص: 64


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 215 .
2- المصدر السابق 2 : 226 .
3- نهج البلاغة / محمد عبده 2 : 206 .

بن عفان وقت الحاجة , فقد ساهم في إذكاء نار الفتنة وتعمد التقاعس عن نصرته وكان له دور ظاهر في التآمر عليه وقتله .

(( قال له عبد الله بن عباس : كلما قلت لنا يا معاوية من شرٍ , بين دفتيك وأنت والله أولى بذلك منّا , أنت قتلت عثمان ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه ؛ فانكسر معاوية ... (1)

نعم , لم يملك معاوية طريقاً يوصله إلى الحكم جزئياً أو كلّياً الاّ إدعاء الثأر والمطالبة بدم الخليفة المقتول لأن معاوية يعلم أن أبناء الطلقاء محرّمة عليهم الخلافة , قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في كتاب له بعثه إلى معاوية : (( وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس , وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم ؟ هيهات لقد حنّ قِدحٌ ليس منها , وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ألا تربَعُ أيها الانسان على ظَلعِك وتعرف قصور ذرعك وتتأخر حيث أخّرك القدر ... (2)

هذه الحقائق لا يريد أن يعترف بها معاوية أو يتصرف بموجبها لأنها تتقاطع مع عقدته ورغبته الجامحة للوصول إلى رأس السلطة بأي ثمن , كما أنه لايقيم اعتباراً لعهد ولا يحترم وعداً ولا يحسب للصحابة الذين يختلف معهم أي حساب , وإذا أردنا تتبع مواقفه العدوانية ومؤامراته الضلالية لطال بنا المقام ولكن نكتفي بذكر بعض تلك المواقف التي تدخل في باب ( تآمر معاوية على حياة الخصوم ) وأشهرها :

ص: 65


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 212 .
2- نهج البلاغة / محمد عبده 3 : 34 – 35 .

قتل مالك الأشتر بالسم :

عندما بلغ علياً (عليه السلام) ضعف محمد بن أبي بكر – واليه على مصر – وجّه مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر قبل أن ينتهي إليه قتل محمد بن أبي بكر , فلما بلغ معاوية ذلك , عظم عليه , وعلم أن أهل مصر أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد , فدسَّ له سماً , فلما صار الى القلزم من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل رجل من أهل المدينة يقال له ...(1) فخدمه وقام بحوائجه ثم أتاه بقعب فيه عسل قد صيّر فيه السم , فسقاه إيّاه , فمات الأشتر بالقلزم وبها قبره (2).

وذكر أكثر من مؤرخ المؤامرة التي راح ضحيتها امير المؤمنين الامام علي (ع)وصيغت بأن ثلاثة من الخوارج إتفقوا على قتل معاوية وعمرو بن العاص , والإمام علي (عليه السلام) . فاما صاحب معاوية فضربه فوقعت الضربة على عجيزته , والآخر الموكل بقتل عمرو بن العاص فانه ضرب خارجة بن حذافة خليفة عمرو في صلاة الصبح وكان عمرو قد تخلف لعلّة , فقال الخارجي أردت عمرواً واراد الله خارجة !! واما عبد الرحمن بن ملجم فنفذ مهمته بنجاح (3) .

فهل يحتاج لفك لغز هذه المؤامرة كثير عناء وعظيم ذكاء ؟ فهل يعقل أنْ يتقدم متبّرع لقتل معاوية بن أبي سفيان ولا يميّز رأسه من عجيزته؟ أما

ص: 66


1- لم يذكر المؤرخون اسم الرجل الذي سمَّ الأشتر (رضی الله عنه) سوى انه كان المقدم على اهل الخراج بالقلزم , فكتب إليه معاوية بانه ان قتله لم يأخذ منه خراجاً ما بقي / تاريخ اليعقوبي ج2 هامش ص183 .
2- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 183 .
3- المصدر السابق 2 : 202 .

عمرو بن العاص الثعلب الماكر فلا يستبعد أن يكون هو المشرف على المخطط , ولذا تغيب عن المشهد ..

أما ملابسات المؤامرة فقد ذكر ابو الفرج الاصفهاني بعض التفاصيل (1) والبعض الآخر جاء في طبقات ابن سعد (2). وأرى أن معاوية إستغل حقد الخوارج على عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فأوعز إلى رأس الفتنة الأشعث بن قيس لتدبير الاغتيال , فحين وصل اللئيم عبد الرحمن بن ملجم إلى الكوفة إحتضنه الأشعث وسهّل مهمته .

وكانت حصة الامام الحسن(عليه السلام) أكثر من مؤامرة حاكها معاوية وزبانيته أولها عند خروج الامام الحسن (ع)على رأس جيش لقتال معاوية فوجّه عبيد الله بن العباس في إثني عشر ألفاً ومعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وهو الأمير , فأرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس ألف ألف درهم , فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه , ودسَّ معاوية إلى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد بن عبادة قد صالح معاوية , ووجه إلى عسكر قيس من يتحدث بأن الحسن قد صالح معاوية , وبعث معاوية إلى الحسن كل من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن إبن أُم الحكم وأتوه وهم بالمدائن , ثم خرجوا من عنده وهم يقولون , ويُسمعون الناس : أن الله قد حقن باابن رسول الله الدماء وسكن به الفتنة وأجاب إلى الصلح , فاضطرب العسكر ولم يشكك الناس في صدقهم , فوثبوا

ص: 67


1- مقاتل الطالبيين / ص17-18 .
2- الطبقات الكبرى ج3 القسم 1 ص23-24 .

بالحسن , وكمن له الجراح بن سنان الأسدي يريد قتله فجرحه بمغوَل في فخذه ...(1)

وعندما أحس معاوية بتخاذل بعض جيش العراق عن قتاله وتشرذمهم , وسهولة شرائهم , سارع الى طرح فكرة ألمصالحة مع الامام الحسن (عليه السلام) قبل أن تستيقظ الحمية في نفوس العراقيين ( فأعطى إبن أخيه طوماراً ختم في أسفله , وقال للحسن : أكتب ما شئت (2) وهذه هي المؤامرة الثانية .

وكتب الإمام الحسن (ع)شروط العهد وهي :

1- على معاوية العمل بكتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين وان لا يعهد من بعده عهداً .

2- أن يكون الأمر من بعده للحسن بن علي وبعده للحسين بن علي.

3- أن لا يسميه الامام الحسن أمير المؤمنين .

4- أن يترك معاوية سب أمير المؤمنين الامام علي (عليه السلام) .

5- أن يؤمّن معاوية الناس جميعاً .

6- أن يستوفي كل من قتل مع امير المؤمنين في الجمل وصفين جميع حقوقهم المالية بما يعادل ألف ألف درهم .

7- أن لا يبغي معاوية الغوائل لأهل البيت سراً وجهراً (3).

ص: 68


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 204 – 205 .
2- الدكتور محمد حسين الصغير / موسوعة أهل البيت الحضارية – الامام الحسن ص 116 عن الفتنة الكبرى لطه حسين 2 : 183 .
3- المصدر السابق ص117 .

وتمتالموافقة , ودخل معاوية الكوفة , وخطب الناس في النخيلة قائلاً : ... ألا واني قد منيت الحسن بن علي أشياء وأعطيته أشياء , وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له (1).

وخرج الحسن إلى المدينة المنوّرة فأقام بها كاظماً غيظه لازماً بيته , إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته , وعزم على البيعة لأبنه يزيد – وهنا دبّر المؤامرة الأخيرة – فدس الى جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الامام الحسن (عليه السلام) من حملها على سمّه , وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد ... فسقته السم , فتوفي في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة (2).

لقد سلك معاوية بن أبي سفيان مختلف الطرق للوصول إلى ما يرضي طموحه وشغفه بالتسلط , فصار خبيراً بالدسائس والمؤامرات , وتفنن في أواخر أيامه بكيفية الاحتيال على الناس لكي يحقق البيعة لابنه يزيد ؛ ومات معاوية وهو غارق بدماء الابرياء .

ص: 69


1- الشيخ المفيد / الأرشاد ص239 .
2- المصدر السابق ص241 .

علي (عليه السلام) في عالم التفوّق بشهادة القرآن والسنّة وفي أقوال الصحابة والتابعين والناس الآخرين ..

في سلّم التفاضل وحساب الدرجات , هناك مراكز يسعى المتفوّقون للوصول اليها بدوافع دنيوية ماديّة أو معنوية , ولعل سائلاً يقول : إلى أي حد تصل نقاط الرفعة والكسب التي يتنافس النابهون والمقتدرون عليها ؟ نقول : إن أعلى تلك الاعتبارات لا تتعدى أرفع مراكز الحكم او أكبر خزين مالي أو أعلى تحصيل معرفي أو ما ماثل ذلك أو اقترب منه , وكل هذه الأمور قد وصل اليها الآلاف من الملوك والرؤساء والقادة والعاملين فدخلواالتاريخ بدرجات متفاوتة منهم المحمود ومنهم غير ذلك . كما امتلأ سجل المتفوقين في مجال العلم والأدب والفن , ونُعت بعضهم بالعباقرة والمتفردين في العلوم الصرفة كالطب والهندسة والفلك والفضاء والفيزياء وغيرها من المعارف . ولكن هناك درجات أعلى في الحياة ورد ذكرها في تاريخ الأفراد منذ بدء الخليقة فكان الأنبياء والأوصياء والحواريون الذين مثلوا رسالات السماء , عرفنا منهم من ورد ذكره في الكتب المقدسة أو ما أظهرته الأسفار التاريخية واللقى الأثرية . فهل يقف الأمر عند هذه الدرجات ؟ والجواب نعم بشرط إستثناء خاتم الرسل (صلی الله علیه و آله وسلم) وسيد الأوصياء (عليه السلام) . لا نقول ذلك إعتباطاً بل بالادلة المتفق عليها .. فخاتم الرسل والأنبياء نبيّنا المصطفى محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) هو سيد الكائنات جميعاً , والمقدم على المرسلين والأنبياء , والمبعوث رحمة للعالمين وهذا القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل ... يشهد بذلك . كما يشهد القرآن المجيد ويشهد النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) بأن علياً أقرب الناس إلى الله ورسوله وقد أجمع

ص: 70

المفسرون على أن قوله تعالى«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) نزلت في عليّ (عليه السلام) . وكذلك قوله تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(2) وقوله تعالى «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(3) وهناك عشرات الآيات القرآنية التي خص الله بها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقد اوصلها الصحابي الجليل عبد الله بن عباس إلى ثلاثمائة آية (4) .

اما حصته (عليه السلام) من حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فكانت الأوفر , لم يبلغها غيره , حتى أن الخصوم والمخالفين لنهجه عجزوا عن إخفاء فضائله . قال رجل لابن عباس : (( سبحان الله ما أكثر مناقب علي وفضائله , إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف ! فقال ابن عباس : أوَ لا تقول أنها إلى ثلاثين الفاً أقرب ))(5)ولكي نعزز ما ذكرناه بامثلة من الحديث النبوي الشريف نقف أمام الكم الكبير الذي يصعب تجاوزه , فلكل حديث موقف ولكل قول قيمة , ولذا سوف نكتفي بذكر بعض النماذج مما اشتهر واتفق عليه الموالف والمخالف.

عن أم سلمة1 قالت : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : (( علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة ))(6)

وعن جابر بن عبد الله (رضی الله عنه) : أن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال لعلي : (( أنت منّي بمزلة هارون من موسى الاّ أنه لا نبي بعدي )) (7).

ص: 71


1- سورة المائدة الآية 55 .
2- سورة البقرة الآية 274 .
3- سورة التوبة الآية 19 .
4- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ص19 .
5- الجويني / فرائد السمطين 1 : 320 .
6- الفتلاوي / الحديث 123 ص276 .
7- المصدر السابق / الحديث 57 ص188 .

وعن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب (1).

وعن أنس بن مالك قال : كان عند النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) طير , فقال : (( اللهم إئتني بأحب الخلق إليك يأكل معي هذا الطير , فجاء عليٌ فأكل معه ))(2) .

وعن زر بن حبيش قال : قال علي (عليه السلام) : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأُمي إليَّ أن لا يحبّني الاّ مؤمن ولا يبغضني الاّ منافق (3) .

ومن حديث الراية في يوم خيبر , عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه , يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ... فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) أين علي بن أبي طالب فقيل يشتكي عينيه قال فارسلوا إليه فأتى ... فأعطاه الراية (4).

وعن عائشة قالت : رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه علي , فقلت يا أبة رأيتك تكثر النظر إلى وجه علي , فقال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : النظر إلى وجه علي عبادة (5).

وأخرج الدار قطني : أن علياً قال للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم كلاماً طويلاً من جملته : أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يا علي أنت قسيم الجنّة والنار يوم القيامة غيري : قالوا : اللهم لا ....وروى

ص: 72


1- المصدر السابق / الحديث 49 ص174 .
2- المصدر السابق / الحديث 159 ص328 .
3- المصدر السابق / الحديث 146 ص305 .
4- ابن حجر / الصواعق المحرقة / الحديث 2 ص72 .
5- الفتلاوي / الكشاف المنتقى / الحديث 218 ص408 .

إبن السماك أن أبا بكر قال له : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : لا يجوز أحد الصراط الاّ من كتب له عليٌّ الجواز (1).

ونختم بحديث يوم الغدير (( غدير خم )) لما أخذ النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) بيَد علي فقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (2).

وبعد قول الله تعالى وقول رسوله الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) في علي (عليه السلام) جاءت أقوال أمّة من الصحابة والتابعين وآخرين عبر الحقب والسنين حتى عصرنا الحاضر , نذكر بعضاً منها من باب التذكير .

( أخرج إبن سعد عن أبي هريرة قال : قال عمر بن الخطاب : علي أقضانا . وأخرج الحاكم عن إبن مسعود قال : أقضى أهل المدينة علي . وأخرج عن سعيد بن المسيب قال : لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني الاّ علي . وأخرج الطبراني وإبن أبي حاتم عن إبن عباس قال : ما أنزل الله , يا أيها الذين آمنوا إلاّ وعلي أميرها وشريفها , ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان وما ذكر علياً الاّ بخير ) (3) .

وفي خطبة الامام الحسن بن علي (عليه السلام) عند وفاة أمير المؤمنين قال : لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه

ص: 73


1- ابن حجر / الصواعق المحرقة ص75 وانظر الفتلاوي / الكشاف المنتقى /الحديث 5 ص118 .
2- الفتلاوي ( الكشاف ) الحديث 208 ص387 .
3- ابن حجر / الصواعق المحرقة ص76 .

الآخرون بعمل (1)وقال إبن عباس : أُعطي علي (رضی الله عنه) تسعة أعشار العلم وإنه لأعلمهم بالعشر الباقي (2).

وقال عبد الله بن عمر لنافع بن الأزرق – لما قال إني أبغض علياً - : أبغضك الله , اتبغض رجلاً سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها (3).

وحين يتعرض الكتّاب لأقوال الناس في علي (عليه السلام) لا ينسون ذكر ما قاله ضرار بن حمزة الكناني في مجلس معاوية بن أبي سفيان وبأمر منه , والحقيقة أنه جاءَ على كنز من الفضائل فنثر بعض محتوياته ومنها قوله : كان والله بعيد المدى شديد القوى , يقول فصلاً ويحكم عدلاً , يتفجر العلم من جوانبه ويستوحش من الدنيا وزهرتها ... وكان غزير الدمعة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ماخشن ومن الطعام ما جشب ..(4)

وعن الحسن البصري قال : كان والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه , وربّاني هذه الأُمّة وذا فضلها وسابقتها (5).

وقال الخليل بن احمد الفراهيدي : (( إحتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل )) (6).

وقال القعقاع بن زرارة : ... ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولكنهم غمطوا النعمة وآثروا الدنيا على الآخرة (7).

ص: 74


1- ابو الفرج الاصفهاني / مقاتل الطالبيين ص : 32 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 30 .
3- علي محمد علي دخيّل / الأئمة الاثنا عشر – الامام علي (ع) ص167 .
4- المصدر السابق ص169 .
5- ابن عبد ربه الأندلسي / العقد الفريد 2 : 217 .
6- الدكتور مهدي محبوبة / ملامح من عبقرية الإمام (ع) ص113 .
7- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 203 .

واذا طوينا صفحة الماضي البعيد ونظرنا في أقوال المعاصرين ممن رزقوا سلامة المنطق وحرية الفكر , سواء من المسلمين أو غير المسلمين لأدركنا أن لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) شيعة من مختلف شعوب الارض المتباينة الوانهم واوطانهم واديانهم , يحبون في علي الصدق والايمان والجهاد والثبات على المبدأ , والوقوف إلى جانب الفقراء والمظلومين .

يحبون فيه المثل العليا للإنسانية ( الحق والعدل والمساواة التي نادى بها جميع الأنبياء والمرسلين ) .

يقول المفكر الكبير ميخائيل نعيمة في تقديمه لكتاب جورججرداق (( الإمام علي صوت العدالة الانسانية )) : وهذا الكتاب مكرّس لحياة عظيم من عظماء البشرية أنبتته أرض عربية ولكنها ما استأثرت به , وفجّر ينابيع مواهبه الإسلام ولكنه ما كان للإسلام وحده ... وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته وطهارة وجدانه وسحر بيانه وعمق إنسانيته وحرارة إيمانه وسمو دعته ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم, وتعبده للحق إينما تجلى له الحق (1).

ويقول سليمان كتاني : إن قراءة الأسارير علمٌ ولكنه لا يؤخذ الاّ عن طريق الطويّة ؛ هكذا لمح محمد في علي وهو طفل يلعب , كل ما حققه فيما بعد في مضمار وجوده . لهذا إنتقل الفتى إلى حجر ابن عمه ليكون أحد

ص: 75


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص5-6 .

أعمدة الفكرة التي تتنزل الآن خيوطها على المتحنث في غار حراء ...إنّ علياً هو عدّة الغد (1).

ويقول راجي أنور هيفا : نعم إنّ الإمام علياً (عليه السلام) هو عدّة الغد بل هو عدّة كل غد , وهو الأمل لمحمد في كل وعد الهي وفي كل عهد , الإمام علي (عليه السلام) بإيمانه وإخلاصه هو جيش محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) المعد لكل شدّة ولكل ليلة ظلماء , ألم ينقل لنا عمر بن الخطاب ما قاله الرسول المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) كما جاء في كتاب المناقب للخوارزمي الحنفي أنه قال عن إيمان علي (عليه السلام) : (( لو أن السماوات والأرض وضعتا في كفة ميزان ووزن إيمان علي لرجح إيمان علي على السماوات والأرض )) (2).

وفي مراجعة متأنية للنهج الإلهي الذي رسمه جل جلاله للبشرية وكلّف الرسل والانبياء التثقيف به وتحمّل المشاق لتثبيت قواعده, نجد أنه يؤكد على التقوى والعمل الصالح والاقتداء بالابرار من عباده , ويقيناً أن علي بن أبي طالب سيد المتقين وخير المجسدين للعدل الالهي فهو التلميذ الأول لسيد الخلق أجمعين الرسول الاعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) فهو القدوة الذي ملأ النفوس دعة والقلوب إيماناً ونشر مبدأ المساواة لواءً والصدق منهجاً والعفة والزهد سلوكاً والحفاظ على الاسلام هدفاً , سلماً أو حرباً , وهو الذي قرنه نبي الرحمة بنفسه في كثير من احاديثه ورفعه إلى أعلى المقامات فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) علي مني وانا منه .

ص: 76


1- راجي انور هيفا / الامام علي في الفكر المسيحي ص120 .
2- المصدر السابق ص121 .

وقال (صلی الله علیه و آله وسلم) : (( ما اكتسب مكتسب مثل فضل علي , يهدي صاحبه إلى الهدى ويردّه عن الردى )) (1)ولم ولن تجد من يختلف في هذا القول الاّ من نصب العداوة والبغضاء لعلي (عليه السلام) .. أما الذين سلمت فطرتهم ووقفوا بتجرد وصفاء على سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فانهم من شيعته بالمعنى الاصطلاحي . وقد عبّر كثير منهم عن رأيه وتأثره بسيرة الإمام (عليه السلام) . (فهذه ثلة من المستشرقين على إختلافقومياتهم وتباين جنسياتهم تميّزت احكامهم بالإنصاف وفي طليعة هؤلاء : كارليل , والبارون كارّاديفو , والبروفسور كازانوفا , والبروفسور أرنست فيشر . يقول الاستاذ توماس كارليل : علي هو ذلك البطل الموجَع المتألم والفارس الصوفي والإمام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سر العذاب الالهي . ويُعرب كارّاديفو عن رأيه فيقول : لقد حارب علي بطلاً مغواراً إلى جانب النبي محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) وقام بمآثر ومعجزات مذ كان يافعاً في بدر وأحد , وتسلح بسيف النبي المعروف ب- ( ذي الفقار ) وكذلك في الهجوم واقتحام حصون اليهود في خيبر . أما رأي البروفيسور كازانوفا فيتمثل بقوله : إنني لا أستغرب أن يندفع كل من يطلع على سيرة علي بن أبي طالب وخصائص عصره الاّ أن يملاؤه الإعجاب البالغ بشخصيته الشاملة الفذة . أما المستشرقون الألمان ومنهم البروفيسور (( فيشر )) فَرأيهم توضحه الكلمات الآتية : لقد كان علي بن أبي طالب بمثابة الشعاع الفكري الصافي وسط ظلام الجهل والتخبط القبلي للأمويين الذين كانوا يمثلون الجناح اليميني للرأسمالية للمتنفذين من أغنياء قريش , وكان طوال حياته منحازاً للفقراء والمسحوقين فهو بحق زعيم الجناح اليساري آنذاك إذا جاز إستعمال هذا المصطلح .

ص: 77


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث 177 ص354 .

أما نظرة المفكرين العرب غير المسلمين لعلي فهي نموذج للوفاء . فجبران خليل جبران قال عن علي (عليه السلام) : في عقيدتي إن ابن ابي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلّيّة , مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته , مات والصلاة بين شفتيه ... وعلّق ميخائيل نعيمة على إجلال جبران للامام علي (عليه السلام) فقال : أذكر أن جبران كان يجل الإمام كثيراً بل يكاد يضعه في مرتبة واحدة مع النبي . وميخائيل نعيمة نفسه يعتبر الإمام علي سيد العرب على الإطلاق في كل فكر وكل خلق وكل بيان بعد الرسول لأنه كان يأخذ الحكمة بلا نصب بل إنها هي التي تمده بروائع القول فيقذف بها لآلئاً بلغت بها الطبيعة حد الكمال , إنّ علياً بحق لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان .

ويصف جورج جرداق علياً بقوله : إنه أشد من الإعصار وأعنف من الرعد وأدهى من الصاعقة على المنافقين الطامعين إلى الدعة والراحة لكي تأتيهم المنافع كما يأتي العلف إلى البهيمة المربوطة في الظل . إن في شخصية علي تحدياً هائلاً هو تحدي المحبّة للبغضاء , تحدي البساطة للتعقيد , والثورة العارمة للخنوع , والحياة للموت , حتى لكأنه الأرض المعطاء تصدق مواسمها الخيّرة دوماً ولا تخادع ..)(1).

ص: 78


1- الاستاذ فاضل علي عطا الشكري / مجلة الشقائق – اتحاد أدباء النجف 1998م بحث بعنوان الامام علي (ع) كما يراه المفكرون غير المسلمين . ص105-108 .

ويرى المفكر والأديب المسيحي نصري سلهب : إن الإمام علياً (عليه السلام) قد ولد مسلماً قبل الإسلام شأنه في ذلك شأن الرسل والأنبياء الذين كانوا مسلمين بالفطرة السليمة (1).

هكذا هو الموقف لدى بعض العلماء والادباء والمفكرين من غير المسلمين الذين ذكرناهم على سبيل المثال . فماذا يقول المسلمون ؟ والذي أعتقده أن الحقيقة غالباً ما تفرض نفسها , وليس للمخالفين إذا أرادوا إحترام أنفسهم الاّ أن يقولوا الحقيقة . علماً بأن كل ما يقال في علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا يعادل أقوال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) واغلبها لا يشاركه فيها أحد من الصحابة حتى قال إبن بطة في الإبانة عن عبد الرزاق عن أبيه قال : فضُلَ علي بن أبي طالب أصحابَ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بمائة منقبة وشاركهم في مناقبهم(2). ومن تلك المناقب : قال إبن عباس (رضی الله عنه) لقوم يتناولون علياً : ويحكم اتذكرون رجلاً كان يسمع وطء جبرئيل (ع)فوق بيته , ولقد عاتب الله أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في القرآن ولم يذكره الاّ بخير (3). وقال نجيب بني أمية عمر بن عبد العزيز كما يصفه الامام الباقر (عليه السلام) : ما علمنا أن أحداً من هذه الأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ازهد من علي بن أبي طالب , ما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (4).

أما معاوية بن ابي سفيان العدو الأول بل أشد أعداء أمير المؤمنين ضراوة فقد سحقت الحقيقة كبرياءه وأنطقته بما هو الواقع , فقد ذكر إبن عبد

ص: 79


1- راجي انور هيفا / الامام علي في الفكر المسيحي المعاصر ص80 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 3 .
3- علي محمد علي دخيل – الإمام امير المؤمنين ص166 عن تذكرة الخواص ص90 .
4- المصدر السابق ص175 عن أُسد الغابة 4 : 24 .

البر في كتابه (( الاستيعاب )) إنّ معاوية عند إستشهاد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : ذهب الفقه والعلم بموت إبن أبي طالب(1).

وهناك أُمّة من المغرمين بحب أمير المؤمنين من القدامى والمعاصرين الذين سطروا أروع النصوص في أعظم الصفات التي تحلى بها علي (ع)فلا يمكن الوقوف عليها جميعاً فلا حدود لهذا اللون من الشهادات والإعترافات والأقوال الملآى بالنور والهدى والعلم والنهى والحكمة البالغة والشعر الرصين والأخبار الموثقة متناً وسنداً حتى أن بعض النصوص يشوبها نوع من الغلو والمبالغة , والحقيقة أنها ثورة عواطف متأثرة بعظمة الإمام ومنزلته الفذة الطافحة بكرم أخلاقه وعظيم جهاده وسعة علمه وزهده وقربه من الله ورسوله (صلی الله علیه و آله وسلم) وتفوّقه على سائر المسلمين بشهادة رسول رب العالمين المصطفى محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) عن جابر بن عبد الله الانصاري (رضی الله عنه) قال : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الحديبية وهو يقول : هذا أمير البررة قاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله , مدَّ بها صوته (2).

ص: 80


1- المصدر السابق ص168 عن الاستيعاب بهامش الاصابة 3 : 45 .
2- الفتلاوي / الكشاف المنتقي – الحديث 221 ص412 ذكره 34 مصدراً .

من صفات الكمال العلوي

اشارة

من المسلمات التي لا يختلف فيها العارفون أن الكمال لله وحده , وهذا هو الكمال المطلق . أما الكمال بمعنى الإحاطة والامتلاء فهو على درجات , وحين يتصل الوصف بمولى المؤمنين وأخي رسول رب العالمين ومن الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا , فيكون على مستوىالإمتياز والتفرد . ومصدره عالمان :- عالم التربية المحمدية وعالم العناية الإلهية . ومن مظاهر الكمال العلوي :

الإيمان الكامل :

في الرجوع إلى ما دوّن في هذا الموضوع نقف عند أول عبارة إيمانية قالها علي (عليه السلام) عندما سأله والده أبو طالب (رضی الله عنه) حين رآه يصلي مع إبن عمه (صلی الله علیه و آله وسلم) في أحد شعاب مكة عما يفعل , فقال : (( يا ابتِ آمنت بالله وبرسول الله وصليت معه لله واتبعته )) (1).

ولو انعمنا النظر في النص لوجدنا أنه تعبير خالص عن إنقطاع وجداني للزائر الجديد الذي ملأ روح علي (عليه السلام) وملك جوراحه , وفك عن لسانه ثقل المفاجأة بالسؤال , فكان الجواب صريحاً صادقاً . وتأكد ذلك عملياً في يوم الدار , يوم أحجم المجتمعون من عشيرة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الأقربين عن المؤازرة والتأييد , وتفرّد علي (عليه السلام) بإعلانه المؤازرة والقبول , على الرغم من وجود أبيه وأعمامه وعليّة القوم من عشيرته , فكأنّه بموقفه المشهود يترجم مكنون ما يعتقد وحقيقة ما يؤمن ؛ ويعزز صدق ايمانه وحبّه لله تعالى

ص: 81


1- ابن هشام / السيرة النبوية 1 : 264 .

ورسوله (صلی الله علیه و آله وسلم) حين اشترى نفسه إبتغاء مرضاة الله ...في مبيته في فراش النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) ليلة الهجرة .

وحين سُئل عن الإيمان كان جوابه (عليه السلام) درساً ومنهاج عمل تفصيلي أحاط بجميع حيثياته وتفرعاته بقوله : الإيمان على أربع دعائم :- على الصبر واليقين والعدل والجهاد .

والصبر منها على اربع شعب :- على الشوق والشفَق والزهد والترقب . فمن اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات , ومن أشفق من النار اجتنب المحرمّات , ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات , ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات .

واليقين منها على أربع شعب :- على تبصرة الفطنة وتأول الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين . فمن تبصّر في الفطنة تبينت له الحكمة , ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة , ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين .

والعدل منها على أربع شعب : على غائص الفهم وغور العلم وزهرة الحكم ورساخة الحلم . فمن فَهم عَلم غور العلم , ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم , ومن حلم لم يفرِّط في أمره وعاش في الناس حميدا .

والجهاد منها على أربع شعب :- على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن , وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين ومن نهى عن المنكر ارغم أُنوف الكافرين , ومن صدق في المَواطن

ص: 82

قضى ما عليه , ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة (1).

بعد كل هذا الذي لم يسبق أن تفوه به غيره (عليه السلام) كيف يكون إيمانه بالله تبارك وتعالى وبرسوله (صلی الله علیه و آله وسلم) ؟ ويقيناً إنّ جواب هذا السؤال قد اختصره الإمام (عليه السلام) بقوله : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً (2).وأكد هذا المعنى الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) عندما برز الإمام علي (عليه السلام) لعمرو بن عبد ود العامري في معركة الخندق بقوله (( برز الإيمان كلّه إلى الشرك كله )) (3).

القوة الخارقة :

حظي الامام علي (عليه السلام) بالقوة الجسدية النادرة , وهي الإقتدار على فعل الاشياء التي يعجز عن فعلها الآخرون . قال إبن قتيبة في المعارف : ماصارع أحداً قط الاّ صرعه , وهو الذي قلع باب خيبر واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه , وهو الذي أقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته (ع)بيده بعد أن عجز الجيش كله عنها وانبط الماء من تحتها (4). وربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض , ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع ان يتنفس , ولم يبارز أحداً الاّ قتله , ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان (5)وحين ضربه الشقي إبن ملجم بالسيف المسموم ولم يكن هناك من أمل في حياته , وفي فترة الشدّة والمكابدة من الألم وأثر السم , لم يتغير,

ص: 83


1- محمد عبدة / نهج البلاغة 3 : 157-158 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 38 .
3- ابن ابي الحديد / شرح نهج البلاغة 19 : 61 .
4- المصدر السابق 1 : 21 .
5- عباس محمود العقاد / عبقرية الامام علي ص8 .

وكان رابط الجأش كامل الوعي يطلق الحكمة ويوصي أولاده . وهذا مما لم يعرف بين الناس .

ونقل آية الله العلامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء خبراً مفاده : (( قال بعض كبار علماء أوربا : لولا سيف إبن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا لأنه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال))(1).

وحين يستعرض الدكتور صلاح الفرطوسي مصادر قوة الإمام الخارقة يبدأ بحضور الإعجاز الرباني , اما الأمور الاخرى التي ذكرها الدكتور فهي مؤثرات معنوية يبدأها بنشأة الإمام في بيت الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) وتأثره بشخصيته ورؤيته المكانة التي يحتلها أبوه (رضی الله عنه) في الوسط القرشي إلى جانب رفعة نسبه . اما من المؤثرات المادية فيذكر كثرة الذهاب والاياب إلى غار حراء بمسالكه الوعرة وهي رياضة مكمّلة للبناء الروحي والجسدي(2).

وأرى أن الخلاصة التي تثمر يقيناً هي أن القوة الفاعلة التي تميّز بها الامام علي (عليه السلام) ضرورة من ضرورات الرسالة وهي إلى الإعجاز أقرب لاتصالها برغبة السماء وحاجة الدعوة الإسلامية إلى فارس كرار غير فرار يفتح الله على يديه الحصون ويجندل الطواغيت , ويدفع عن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) الكربات .

ص: 84


1- أصل الشيعة وأصولها ص107 .
2- الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي / وما أدراك ما علي 1 : 160-161 .

الشجاعة المطلقة :

من الحقائق الملموسة والمنظورة في حياة الإمام علي (عليه السلام) الشجاعة في ميادين القتال . قال إبن أبي الحديد المعتزلي : بانه أنسى الناس ذكر من كان قبله , ومحا إسم من يأتي بعده , وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط ولا أرتاع من كتيبة ولا بارز أحداً الاّ قتله , ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى الثانية (1).وأرى أنها أكبر من معنى الشجاعة التقليدي , أنها جزء من رسالة الأسلام ومن ضرورات حمايته ولهذا تجاوزت كل الاعتبارات المرصودة في تاريخ البطولات عبر الحقب المتعاقبة .

العلم التام :

العلم من الصفات المكتسبة , يتم تحصيل ما يحتاجه الإنسان منه منذ أيامه الأولى , وتتسع دوائره بتقادم الأيام والسنين وهو محكوم بالمكانوالزمان والقدرات الذاتية والمؤثرات الخارجية , فالشخص محكوم بما تيسر له ووصل إلى متناول يده من علم أو علوم . يضاف إلى ذلك مدى إحاطة مصادر التعليم وإمكاناتها المعرفية , وهي بالحقيقة لا تملك كل مافي علم من العلوم من معلومات ومحتويات الاّ ما أمكن الوصول إليه منها , فهي في توسع وتجدد دائمين . فاذا كان المعلم هو المبعوث الأعظم لتعليم البشرية , سيد الخلق محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي يتلقى علومه وحياً , ولا تنقصه مفردة واحدة مما يريد الله تعليمه كي لا يحتاج لغيره من الناس كافة حتى وصف نفسه (صلی الله علیه و آله وسلم) بقوله الشريف : (( انا مدينة العلم ... )) ولم يقل ذلك ليعلن عن إحاطته هو بعلوم الدنيا في

ص: 85


1- شرح نهج البلاغة 1 : 20 .

ماضيها وحاضرها ومستقبلها فحسب بل ليعلن إلى من يريد الولوج إلى عالم علمه أن يبدأ بتلميذه امير المؤمنين ويعسوب الدين علي (عليه السلام) فاكمل حديثه بقوله : (( .... وعلي بابها )) .

ففي زمن متصل بالفترة التي سبقت الإسلام بقليل , في زمن يغلب عليه جانب الجهل والأمّية تظهر شخصية آدمية تحيط بالعلوم والمعارف وخفايا الكون وأسرار الطبيعة , وأدق مجريات حياة الانسان والحيوان , شخصية لا يبزها منافس , لا يمكن أن تكون بمعزل عن منابع النور الإلهي والإقتدارالرسالي , فقد أَفصح الإمام (عليه السلام) عن ذاته بقوله : وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة .. يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به (1)ويضيف أيضاً : علّمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح كل باب إليّ الف باب (2).وقد تفرد (عليه السلام) من بين جميع الصحابة والتابعين بل كل ابناء آدم بقوله : إنّ بين جنبيّي لعلماً جماً لو أصبت له حملة(3)وكان (عليه السلام) يقول : سلوني قبل ان تفقدوني , هذا سفط العلم , هذا لعاب رسول الله , هذا مازقني به رسول الله زقا فاسألوني فإنَّ عندي علم الأولين والآخرين (4) ولم يكن ذلك إدعاءً بل دلل (عليه السلام) على غزارة علمه بما خلّفه من آثار وانجازات في علوم القرآن والفقه والحديث والكلام والنحو واللغة والشعر والفلسفة والفلك وعلوم الطبيعة والكيمياء والحساب والطب وفنون الحرب والفروسية اضافة إلى الحكمة والوعظ والإرشاد وحسن

ص: 86


1- محمد عبدة / نهج البلاغة 2 : 182 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 36 .
3- المصدر السابق 2 : 38 .
4- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 44-54 .

القضاء وفنون البلاغة والبيان وغيرها الكثير (1). وعُرف عنه (عليه السلام) الإخبار بالمغيبات وعلوم الطريقة والتصوّف والقراءات والتفسير (2).

كما حث على طلب العلم فإنه (عليه السلام) قد حمل العلم لذاته , ولم يحث على طلبه لصفة من صفاته أو لغنم من ورائه ... وجعله غاية لا غرضاً , فقال : (( تعلموا العلم وان لم تنالوا به حظاً )) . واذا لم يدرك العلم على سعته فقد حث على إدراكه على قلته فان قليله اذا ثبت في القلب أنبت الإدراك وأينع الهواجس وأخصب المعارف , فقال : (( قليل العلم اذا وقرَ في القلب كالطل يصيب الأرض المطمئنة فتعشب )) وقد اولى العلماء عنايته فرفعهم حيث يستحقون .. جعل العالم نبراساً يستضاء بنوره ومصباحاً تجلى المعرفة بسناء معارفه فقال : (( العالم مصباح في الأرض فمن أراد الله به خيراً إقتبس منه))(3).

واختصر الكاتب القدير جورج جرداق الحديث في علم الإمام بقوله : (( علي بن أبي طالب فذّ من أفذاذ العقل , وهو بذلك قطب الإسلام وموسوعة المعارف العربية ليس من علم عربي الاّ وقد وضع أصله أوساهم في وضعه))(4).

ص: 87


1- ابن ابي حديد / شرح نهج البلاغة 1 : 57 .
2- المصدر السابق 1 / 17 .
3- الدكتور مهدي محبوبة / ملامح من عبقرية الإمام (ع) ص160 .
4- الامام علي صوت العدالة الانسانية ص71 .

وضوح المنهج :

إنّ من إصول الفطرة الصفاء , ومن أُسس الأخلاق الحميدة النقاء وأن لا يخالطها ما يجرح العدالة . وهذه الصفات لا تتوفر الاّ عند الصفوة الذين ملأ الإيمان نفوسهم وادركتهم العناية الالهية فطهّرت قلوبهم من الأدران وهم - غالباً– قِلّة , فليس كل من قال أو فعل شيئاً من الخير يحتل موقعاً متميّزاًولذا نجد في تاريخ أمتنا كوكبة من المؤمنين القدوة , وهم بالضرورة دونمنزلة الأنبياء والأوصياء .

والمتحقق في سلوك سيد الأوصياء امير المؤمنين علي (عليه السلام) : إنّ أقواله عين أفعاله ولم يجد أعداؤه – وما اكثرهم – موقفاً واحداً يعتوره ختلٌ أو مراوغة أو أزدواجية منذ طفولته وإلى ساعة إستشهاده(عليه السلام) . والشواهد على ذلك لا حصر لها , ومن أجلِّ ما وصف به أمير المؤمنين انه صوت العدالة الانسانية , ويقيناً ان العدالة تمثل أعلى درجات الصفاء الروحي .

لقد كانت العدالة بعض كيانه وجزءاً من بنيانه وأصلاً في طبعه , وقد قال جورججرداق : : (( ليس غريباً أن يكون علي أعدل الناس بل الغريب أن لا يكونه )) (1).

ومن ركائز وضوح المنهج عند أمير المؤمنين (عليه السلام) مواقفه المصيرية وردود أفعاله الآنية , وهي لدى غيره تهز أساساتهم وتقلب موازينهم

ص: 88


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية ص62 .

وتكشف المستور من مكنون نفوسهم وضمائرهم ولكنه (عليه السلام) الممثل الأمثل للميزان والقدوة في سلامة المسيرة من الميلان .

ولو تصدينا لأقواله لوجداناها نسخة طبق الاصل من أفعاله . فاذا قال للدنيا غرّي غيري فانه قد طلقها ثلاثاً قولاً وعملا , ويوم عرضت عليه الخلافة بالشروط غير الموضوعية رفض القبول بها وحين رجح بعضهم له مهادنة معاوية حتى يعطي بيعته , فقد رفض ان يمهله ليلة واحدة والأمثلة لا حدود لها ويكفي أن نقف عند قوله المجسد لنهجه الواضح : (( والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها لبَّ شعيرة ما فعلت . وإنّ دنياكم أهون عندي من ورقة في فم جرادة )) (1) .

تلك هي المرتكزات التي تنماز بها شخصية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أما الصفات الفرعية والسمات التقليدية فليس في قاموس العرب المسلمين سجيّة محمودة أو خليقة مرموقة الاّ وحصته (عليه السلام) منها حصة الاسد ؛ يقول إبن أبي الحديد : فأما فضائله (عليه السلام) فإنها قد بلغت من العِظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرّض لذكرها والتصدي لتفصيلها (2).

ص: 89


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية ص62 .
2- شرح نهج البلاغة 1 : 16 .

صفات أخرى متغلبة عند أمير المؤمنين علي (ع)

اشارة

إنّ من لوازم السمو في حياة أي شخص قيامه بأفعال يُجلّها المجتمع ويهتم بها أرباب المفاضلة والترجيح , أفعال ليست غريبة في نسيجها بل هي فذة في تنفيذها . ولا أُغالي إذا قلت إنّ هذا النوع من الإنفرادات محجوز لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) إذا إستثنينا الرسول العظيم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ومن ذلك:

السخاء

وهو من مكارم الأخلاق عند العرب في الجاهلية والإسلام وقد حثَّ الإسلام على فعله لكونه التعبير العملي لطيب النفس وعلوّها عن البخل المذموم والحرص غير المبرر , فالمال مال الله والسخي حبيب الله .

والسخاء من صميم أخلاق علي أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد نزل به قرآن في قوله تعالى «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1) فليس بين المسلمين من تصدق بخاتمه وهو راكع غير علي (عليه السلام) والقصة معلومة ومشهورة , ومثلها قضية تصدقه هو وعياله بطعامهم وهم صيام ولمدة ثلاثة أيام كما وردت في القرآن المجيد بقوله تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)»(2) والمعروف عن الإمام (عليه السلام) أنه لا يرد سائلاً , قال الشعبي : لقد كان (عليه السلام) أسخى الناس , ما قال لسائل لا , قط . وكان يعطي من يسأله ويعطي من يستحق بغير

ص: 90


1- سورة المائدة الآية 55 .
2- سورة الانسان الآية 8 , 9 .

سؤال حين يتوفر بيده ما يعطيه . وقد شهد له عدوه معاوية بن أبي سفيان بقوله : هو الذي لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه .

المروءة في الحرب

كان (عليه السلام) فارساً شهماً ورعاً يترفع عن فعل الصغائر , ويتميز بسلامة القلب فلا يحمل ضغينة على مخلوق ولا يعرف حقداً حتى على ألد خصومه . وكان يوصي جنوده بأن لا يبدأوا بقتال ولا يجهزوا على جريح بل يوصيهم بإسعافه , وأن لا يلحقوا متراجعاً أو يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالاً . وخير شاهد على ذلك موقفه من محاربي واقعة الجمل , فبعد أن وضعت الحرب أوزارها وتحقق النصر لجيش الإمام علي (عليه السلام) عفا عن مُقاتلة أهل البصرة وشمل عفوه الرؤساء وقادة العسكر , فاكرم أم المؤمنين عائشة وجهزها بأحسن ما يكون إلى المدينة , وعفا عن مروان بن الحكم أعدى أعدائه وعن عبد الله بن الزبير الذي كان يسب الإمام , وسعيد بن العاص .

وموقفه الآخر في صفين حين منع معاوية جيش الامام من الوصول إلى الماء ليقتلوا عطشاً , ولما ملك جنود الإمام الماء بالقوة وأرادوا إستعمال نفس السلاح مع جند الشام , رفض الإمام علي (عليه السلام) ذلك وقال لأصحابه خذوا من الماء حاجتكم وأرجعوا إلى معسكركم وخلوا عنهم , فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم .

وموقفه من قاتله إبن ملجم , فقد أوصى أولاده بقوله : إن أبقَ فأنا ولي دمي , وإن أفنَ فالفناء ميعادي , وإن أعفُ فالعفوا لي قربة , وهو لكم حسنة , فاعفوا , ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟

ص: 91

أيّ نوع من الناس هذا الأنسان , فهل ثمة من مثيل ؟ .

ذكاؤه :

الذكاء يعني كون الشخص سريع الفطنة والفهم , وقد يشترك جملة من الناس في سلّم تقييمي متقارب الدرجات في الذكاء , ولكن حين يتجاوز أحدُهم الحدود المتعارف عليها ويتفوّق على عموم أبناء جنسه في النتائج المتحققة عن طريق الفهم والإستيعاب والتوظيف السريع وعدم الحاجة إلى الغير أو الرجوع إلى ما يحفز تلك القدرات , فهو بهذه المواصفات المثال الذي يشار إليه . ولا يختلف العقلاء والأذكياء في أنّ الإمام علي (عليه السلام) لا يجارى في ذكائه , وقد شهد له سيد الأذكياء الرسول الأكرم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) بقوله (( أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب )) (1). وخير مصداق على غزارة علمه وذكائه أنه كان الملجأ الأخير للخلفاء الراشدين الذين سبقوه في حل المعضلات العقائدية والتاريخية والقضائية والأدارية والسياسية حتى قال الخليفة عمر بن الخطاب عبارته المشهورة : لولا علي لهلك عمر . وهذا كتاب نهج البلاغة يكشف لنا المستوى الفذ الذي تفرد به أمير المؤمنين علماً وذكاءً .

يقول الكاتب القدير جورج جرداق : ومن شروط الذكاء العلوي النادر هذا التسلسل المنطقي الذي تراه في النهج أنّى اتجهت , وهذا التماسك بين الفكرة والفكرة حتى يكون كل منها نتيجة طبيعية لما قبلها وعلّة لما بعدها (2). ومن بعض مفردات ذكائه تلك الاقوال الحكمية التي يخاطب بها عقول الناس

ص: 92


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى / الحديث رقم 13 ص127 ذكرهُ ثمانية عشر مصدراً .
2- صوت العدالة الانسانية ص302 .

وضمائرهم , حكم تتبلور فيها خلاصة علمه وتجربته , رائده تنوير الطريق وتشخيص حيثيات الحق والباطل في الحياة الدنيا .

ومن لوامع فطنته أجوبته في معضلات المواريث التي كانت تعد في ذلك الزمن ألغازاً تكدُّ في حلها العقول , وكان جوابه عليها فورياً . ومثلها المشكلات الرياضية يجيب عليها دون الرجوع إلى قرطاس وقلم .

ولم يقتصر جهده العقلي على ناحية واحدة فهو يتحدث بمنطق الخبير عن ظواهر الطبيعة ويصف خفايا الخلق في الخفاش والطاووس والنمل والجراد , ويضع للمجتمع قوانين , ويبدع في الحديث عن خالق الكون سبحانه وتعالى وعن روائع الوجود (1).

ومن جميل استنباطه وجليل معرفته في جوابه عندما سأله كميل بن زياد (رضی الله عنه) عن النفس . فقال الإمام (عليه السلام) : أي نفس ؟ فقال كميل : هل غير واحدة ؟ قال الإمام بل أربع أنفس , وهي : النامية النباتية والحسّية الحيوانية والناطقة القدسية والكلّية الالهية , ولكل منها قوى خمس وخاصتان ... ثم دخل (عليه السلام) بذكر التفاصيل (2).

الزهد والقناعة

لقد ضرب الإمام علي (عليه السلام) أروع الأمثلة في الزهد والقناعة في طعامه ولباسه وفراشه ومسكنه , والذي ينبغي التأكيد عليه هو : إنّ سلوكه هذا لم يأتِ من عوز أو عدم إقتدار وإنما هو نقاء الجبلّة والحرص على سلامة النية وصدق الاعتقاد بكون الدنيا محطة تزوّد لحياة أبقى , ولأنه يراها سافرة مكشوفة الظاهر والباطن فيحذّر من مغرياتها التي

ص: 93


1- المصدر السابق ص303 – 304 .
2- المجلسي / بحار الانوار 61 : 84 .

تبعد الإنسان عن الهدف الذي خُلق من أجله . وكان (عليه السلام) يقول لمن يطلب منه الرفق بنفسه : ... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة , ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع , أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى واكباد حرّى ,, أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين ولا أُشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش (1).

لقد أكد أمير المؤمنين تحذيراته من الدنيا وموقفه منها حتى صار كلامه مصدراً لمن يريد الإفلات من ربقتها والإنقياد لمتعها . ولو نظرت في كتاب نهج البلاغة لوجدت الإمام قد تعّرض للدنيا في أكثر من خمس وعشرين خطبة أو كلام ومن ذلك قوله : الدنيا دارٌ مُني لها الفناء ولأهلها منها الجلاء , وهي حلوة خضرة ,,, فارتحلوا عنها باحسن ما بحضرتكم من زاد (2). ويقول أيضاً : أوّلها عناء وآخرها فناء , في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب (3) ويكشف سلام الله عليه الغطاء عن وجه الدنيا ويقول : فإني احذّركم الدنيا فإنّها حلوة خضرة حُفت بالشهوات .. غرّارة ضرارة , حائلة زائلة , نافدة بائدة , أكّالة غوّالة .. لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً الاّ أرهقته من نوائبها تعباً (4).

ص: 94


1- محمد عبدة / نهج البلاغة 3 : 80-81 .
2- المصدر السابق 1 : 91 .
3- المصدر السابق 1 : 127 .
4- المصدر السابق 1 : 216 .

والحقيقة أنّه (عليه السلام) لم يذم الدنيا لذاتها بل يرشد الناس الى ما فيها من خير وشر , فيدعوهم للحذر من شرورها فيقول : عباد الله : الآن فاعملوا والألسن مطلقة والأبدان صحيحة والأعضاء لدْنَة والمنقلب فسيح والمجال عريض قبل إرهاق الفوت وحلول الموت ..(1) ويضع (ع)النقاط على الحروف بقوله : أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم (2).

أما تفاصيل مفردات زهده فالحديث فيها يطول ولكن نجمل القول في : لباسه : فكان يقول : لقد رقعت مدرعتي حتى استحيت من راقعها . وطعامه : فقد كان يأكل ما جشب من الطعام . وسكنه : فلم يبني داراً أو يضع يده على أرض او عقار او مال بدون وجه حق حتى أنّ أحداً من رعاياه لم يمت عن نصيب أقل من النصيب الذي مات عنه علي (عليه السلام) وهو خليفة المسلمين وعلى رأس دولة الإسلام .

الفصاحة والبلاغة

الفصاحة فنٌ سداه ولحمته الكلام , فكل من جادت لغته وحسن منطقه فهو فصيح ولكن : شتان بين إمام ومأموم . وعلى الرغم من تفوّق العرب في جاهليتهم بهذا الفن وبراعتهم في أفانينه إلاّ أنهم تراجعوا أمام فصاحة القرآن المجيد الذي تحداهم في أكثر من مرّة , ووقفوا عاجزين تجاهه , وكذلك فصاحة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وهو ابن بيئتهم ولسانه الشريف من لسانهم الاّ أنه ينطق بأسلوب كتاب الله المجيد ولغة الوحي , ويقيناً أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق . أما الإمام علي بن أبي طالب (عليه

ص: 95


1- المصدر السابق 2 : 196 .
2- المصدر السابق 2 : 209 .

السلام) فقد استقام منطقه وحسن كلامه لأنه صورة من كلام الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي ترعرع الإمام (عليه السلام) في حجره وتتلمذ عليه فكان القرآن أساس تحصيله .

وحين أنجز الشريف الرضي 0 جمع ما اختار من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) سماه نهج البلاغة . وعندما تصدى الشيخ محمد عبده لشرحه قال : ولا أعلم إسماً أليق بالدلالة على معناه منه (1) وقال الشريف الرضي:فانه يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية . وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه (عليه السلام) ظهر مكنونها , وعنه أُخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه إستعان كل واعظ بليغ ومع ذلك فقد سبق وقصّروا وتقدم وتأخروا (2) .

وقال العلاّمة محمد ابو الفضل إبراهيم : علي بن أبي طالب (ع)إختص بقرابته القريبة من الرسول (عليه السلام) .. كما كان كاتب وحيه وأقرب الناس إلى فصاحته وبلاغته ... كل هذه المزايا وما صاحبها من نفح الهّي والهام قدسي , مكنّت الإمام علي من وجوه البيان وملّكته أعنّه الكلام(3).

ويتعرض جورج جرداق إلى شروط البلاغة عند الإمام (ع)فيقول : لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب , فإنشاؤه أعلى مثل لهذه البلاغة بعد القرآن , فهو موجز على وضوح , قوي جياش , تام الإنسجام لما بين الفاظه ومعانيه وأغراضه من إئتلاف حلو الرنّة في الأُذن موسيقي

ص: 96


1- المصدر السابق المقدمة صفحة ي .
2- المصدر السابق 1 : 2-3 .
3- شرح ابن ابي الحديد لنهج البلاغة 1: 4 .

الواقع . فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه , صادق كطويته , فلا عجب ان يكون نهجاً للبلاغة (1).

ويضيف قائلاً : فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو فالنطق السهل كان من عناصر شخصيته وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعاً ؛ ثم إنّ الله يسَّر له العدّة الكاملة بالفطرة السليمة والذوق الرفيع والبلاغة الآسرة ثم بذخيرة من العلم إنفرد بها عن أقرانه وبحجة قائمة وقوة إقناع دامغة . وعبقرية في الإرتجال نادرة ... وإنه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيباً فذاً غير علي بن أبي طالب (2).

ويقول أبو هلال العسكري : ليس الشأن في إيراد المعاني وحدها وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه , مع صحة السبك والتركيب والخلوّ من أود النظم والتأليف(3).

ولسليمان كتاني تعقيب على مفهوم البلاغة حيث يقول : البلاغة مفهومها الحقيقي ليست مطلقاً في قوة اللفظ والنحت بقدر ما هي تنزيل لسمو المعاني في قوالب متينة السبك والحبك , وان هذه الأخيرة تبقى أبداً قوالب جوفاء مالم تستتم فيها تلك المفاتن (4).

ولو أراد أحدٌ أن يأتي بنموذج من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) من نهج البلاغة مثلاً فعليه أن يقرع بين النصوص فليس بينها فاضل

ص: 97


1- الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص 317 .
2- المصدر السابق ص320 .
3- المصدر السابق ص321 .
4- الإمام علي نبراس ومتراس ص 226 .

ومفضول بل هي أشبه ما تكون بلغة القرآن فمن أي جزء تبدأ يتحقق الغرض . فعلى سبيل الإستشهاد نختار النص الآتي : (( الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولا يحصي نعماءه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون , الذي لا يدركه بُعدُ الهمم ولايناله غوص الفِطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود , فطرَ الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتّد بالصخور ميدان أرضه , أول الدين معرفته , وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ... فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عدّه ...(1) .

هكذا يعرض أمير البلاغة والبيان وسيد الفصحاء والمتكلمين , درساً في البلاغة والفصاحة , تصرخ مفرداته بعلو المقام ودقة الكلام وغزارة العلم وصدق الإيمان ؛ ولو تمادينا في ذكر بقية خطبته (عليه السلام) لوجدنا كنزاً لا يَعِدله قيمة أيُ نص آدمي بعد كلام أخيه وابن عمه النبي الأمي (صلی الله علیه و آله وسلم) .

القضاء

ذهب اللغويون في معنى القضاء إلى أمور متعددة جاء بعضها في قول الزهري : القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى إنقطاع الشيء وتمامه , وكل ما أحكم عمله أو أُتم أو خُتم أو أُدي أداء أو أُجب أو أُعلم أو أُنفذ أو أمُضي فقد قضي (2).

ص: 98


1- محمد عبده / نهج البلاغة 1 : 7-8 .
2- ابن منظور / لسان العرب – مادة قضي .

والقضاء في الاصطلاح الشرعي : (( ولاية الحكم شرعاً لمن له أهلية الفتوى بجزيئات القوانين الشرعية ,, باثبات الحقوق واستيفائها للمستحق . وأعم من ذلك أنه ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة ))(1).

والقضاء من لوازم الحكومة , وقد تولاه رسول الله محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) في حكومة المدينة المنوّرة , أي أنه من الوظائف المهمة , يقول الإمام علي (عليه السلام) لشريح : (( يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبي أو وصي نبي أو شقي )) (2).

ونظراً لخطر القضاء فقد أحجم العلماء والأخيارعن قبوله لاسيما اذا كانت السلطة الحاكمة غير شرعية , فهذا أبو حنيفة النعمان لمّا إستدعاه المنصور – العباسي – وعرض عليه منصب القضاء أبى وامتنع عن قبوله رغم اصرار المنصور عليه ... نعم إذا كانت السلطة شرعية فيجب على من كانت له أهلية القضاء أن يجيب لذلك (3).

ولسنا هنا بصدد البحث في موضوع القضاء ومتعلقاته بل يكفي التعريف به , ثم التعرض إلى دور الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في القضاء في عهد النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) وبعده .

وكانت البداية في بعث المرتضى إلى اليمن . عن عليّ (عليه السلام) قال : بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى اليمن , فقلت : أتبعثني وأنا شاب أقضي بينهم

ص: 99


1- باقر شريف القرشي / نظام الحكم والادارة في الاسلام ص332 .
2- المصدر السابق ص334 .
3- المصدر السابق ص 335 .

ولا أدري بالقضاء ؟ قال فضرب بيده في صدري ثم قال : (( أللهّم إهدِ قلّبه وثبّت لسانه )) فما شككت بعد في قضاء بين إثنين(1).

ويشهد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) باقتدار عليّ (عليه السلام) بالقضاء في قضاياتصدى لها أمير المؤمنين وحكم فيها , منها : ما ورد في سنن أبي داود وإبن ماجه عَن زيد بن أرقم أنّه قيل للنبي (صلی الله علیه و آله وسلم) : أتى إلى علي في اليمن ثلاثة نفر يختصمون في ولدهم كلهم يزعم أنه وقع على أُمه في طهر واحد , ذلك في الجاهلية , فقال علي (عليه السلام) : إنهم شركاء متشاكسون , فقرع على الغلام بإسمهم فخرجت لأحدهم , فالحق الغلام به والزمه ثلثي الدية لصاحبيه ... فقال النبي : الحمد لله الذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود .(2)وهذه ثمرة من ثمار علم الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي تلقاه من الوحي الإلهي وعلّمها لعلي (عليه السلام) .

وفي حادثة رواها مصعب بن سلام عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّ رجلين اختصما إلى النبي في بقرة قتلت حماراً فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) إذهبا إلى فلان واسألاه عن ذلك , فلما سألاه قال : بهيمة قتلت بهيمة لاشيء على ربّها . فأُخبر رسول الله , فأشار بهما إلى ( آخر ) فقال كما قال سابقه , فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) : إذهبا إلى عليّ , فكان قوله (عليه السلام) : ( إن كانت البقرة دخلت على الحمار في مأمنه , فعلى ربها قيمة الحمار لصاحبه , وإن كان الحمار دخل

ص: 100


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – حديث رقم 168 ص 344 ذكره 79 مصدراً .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 353 .

على البقرة في مأمنها فقتلته فلا غرم على صاحبها . فقال رسول الله : لقد قضى بينكما بقضاء الله ) (1).

وعن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوّج رجل منّا إمرأة من جهينة فولد له تماماً لستة أشهر , فانطلق زوجها إلى ( عثمان ) فأمر بها أن تُرجم , فبلغ ذلك علياً (رضی الله عنه) فأتاه فقال ما تصنع ؟ ليس ذلك عليها , قال الله تبارك وتعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهراً . وقال : والوالدات يرضعّن أولادهن حولين كاملين , فالرضاعة أربعة وعشرون شهراً والحمل ستة أشهر . فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا . وأمر عثمان أن تُرد , فوجدت قد رجمت ... (2) وهذا الحكم بالنص القرآني .

وعن إبن عباس قال : أٌتي الخليفة بمجنونة قد زنت , فاستشار فيها أُناساً فأمر بها أن ترجم , فمّر بها علي (رضی الله عنه) فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة بني فلان زنت فأمر بها الخليفة أن تُرجم , فقال : إرجعوا بها . ثم أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أما علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : رفع القلم عن ثلاث , عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستقيظ وعن المعتوه حتى يبرأ ؟ وأن هذه معتوهة بني فلان , لعل الذي أتاها أتاها وهي في بلائها , فخلى سبيلها (3)فحكم (عليه السلام) بحديث رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) .

وعن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه قال : خاصم غلام من الأنصار أمّه إلى القاضي فجحدته , فسأله البيّنة فلم تكن عنده , وجاءت المرأة بنفر فشهدوا أنها لم تزوّج وأنّ الغلام كاذب عليها , وقد قذفها , فامر القاضي

ص: 101


1- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 354 .
2- الشيخ عبد الحسين الأميني / الغدير 6 : 94 .
3- المصدر السابق 6 : 101 .

بضربه . فلقيه علي (رضی الله عنه) فسأل عن امرهم , فدعاهم ثم قعد في مسجد النبي وسأل المرأة فجحدت , فقال للغلام : إجحدها كما جحدتك , فقال : يا ابن عم رسول الله إنها أُمي , قال أجحدها وأنا أبوك والحسن والحسين أخواك , قال جحدتها وانكرتها . فقال عليٌّ لأولياء المرأة : أأمري في هذه المرأة جائز ؟ قالوا نعم وفينا أيضاً . فقال (ع)أُشهد من حضر إني قد زوّجت هذا الغلام من هذه المرأة الغريبة منه , وأمهرها أربعمائة وثمانين درهماً ؛ وقال للغلام : خذ بيد إمرأتك ولا تأتينا الاّ وعليك أثر العرس . فلما ولّى قالت المرأة : يا أبا الحسن الله الله هو النار , هو والله ابني . قال : كيف ذلك ؟ قالت إن أباه كان زنجياً وإنّ أخواتي زوجوني منه فحملت بهذا الغلام , وخرج الرجل غازياً فقتل , وبعثت بهذا إلى حي بني فلان فنشأ فيهم وأنفت ان يكون إبني . فقال علي انا أبو الحسن . والحقه وثبت نسبه (1). وهكذا قضى أمير المؤمنين بالحكمة والذكاء .

وعن الحسن قال : أرسل الخليفة عمر بن الخطاب إلى إمرأة مغنّية .. فقيل لها : أجيبي عمر . فقالت : يا ويلها مالها ولعمر . فبينما هي في الطريق فزعت فضربها الطلق , فدخلت داراً فالقت ولدها ثم مات . فاستشار عمر أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فاشار عليه بعضهم : أنْ ليس عليك شيء إنّما أنت دالٌ ومؤدب , وصمت عليٌ , فأقبل على علي فقال : ما تقول ؟ قال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم , وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك .

ص: 102


1- الشيخ الاميني / الغدير 6 : 104-105 .

أرى أنّ ديته عليك فانك أفزعتها وألقت ولدها في سبيلك ..(1)لقد قضى أمير المؤمنين وفق ما جاء في فقه الجنايات .

وعن ابن عباس قال : وردت واردة حار في حلها أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فكان الملجأ إلى علي (عليه السلام) ( وملخص القضية ) : جاء رجل فذكر أن رجلاً أودعه إمرأتين حرّة مهيرة وأم ولد .. فلما كان في هذه الليلة وضعتا معاً إحداهماإبنا والأخرى بنتاً , وكلتاهما تدعي الإبن من أجل الميراث .. فدعا أمير المؤمنين بقدح فقال لإحدى المرأتين : إحلبي , فحلبت , فوزنه . ثم قال للاخرى : إحلبي فوزنه فوجده على النصف من لبن الأولى , فقال لها خذي انت إبنتك , وقال للاخرى خذي أنت إبنك . ثم قال : أما علمت أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام ؟ (2)فبالعلم ودقة المعرفة قضى أمير المؤمنين .

وبالعلم الصرف قضى أمير المؤمنين في قضية رجل ضُرب على هامته فادعى أنه لا يبصر شيئاً و لايشم رائحة وأنه قد أُخرس فلا ينطق . فقال (عليه السلام) إن كان صادقاً فيما أدعاه فقد وجبت له ثلاث ديات , ولمعرفة صدقه من كذبه : فإنّ إدعاءَه أنه لا يبصر , فيُطلب منه أن يرفع عينيه إلى عين الشمس , فإن كان صحيحاً لا يتمالك أن يغمض عينيه , وأما إدعاؤه من فقدان الشم فيقدّم إحراق قريب من أنفه , فان كان صحيحاً وصلت رائحة الحراق إلى دماغه ودمعت عيناه ونحّى راسه , واما إدعاؤه عدم القدرة

ص: 103


1- المصدر السابق 6 : 119 .
2- المصدر السابق 6 : 172-173 .

على النطق , فتغرز إبرة في لسانه فان كان ينطق يخرج الدم أحمر وإن كان كما يدعي خرج الدم أسود اللون (1).

وبعلم النفس وحب الذات الغريزي تمكن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الحكم في قضية غاية في الإبهام وملخصها : إنّ رجلاً أقبل من الجبل حاجاً ومعه غلام له , فأذنب , فضربه مولاه , فقال : ما أنت بمولاي بل أنا مولاك ... ثم أتيا أمير المؤمنين في الكوفة ليحكم بينهما , فقال الذي ضرب الغلام : هذا غلام لي وإنه أذنب فضربته , فوثب عليَّ . وقال الآخر : هو والله غلام لي , إنّ أبي أرسلني معه ليعلمني وإنه وثب عليَّ يدّعيني ليذهب بمالي . فقال (عليه السلام) : إنطلقا فتصافيا ليلتكما هذه ولا تجيئاني إلاّ بحق . فلما أصبح أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لقنبر : أُثقب في الحائط ثقبين . فجاء الرجلان واجتمع الناس فقالوا : لقد وردت عليه قضية ما ورد عليه مثلها , لا يخرج منها .., فقال (عليه السلام) لهما : ما تقولان ؟ فحلف هذا أن هذا عبده , وحلف هذا أن هذا عبده فقال لهما : قوما فإني لست أراكما تصدقان . ثم قال لأحدهما أدخل رأسك في هذا الثقب , ثم قال للآخر : أدخل رأسك في هذا الثقب , ثم قال : يا قنبر عليَّ بسيف رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) عجّل , أضرب به رقبة العبد منهما . قال : فأخرج الغلام رأسه مبادراً , ومكث الأخر في الثقب , فقال (عليه السلام) ألست تزعم أنك لست بعبد ؟ فقال بلى , ولكن ضربني وتعدى علي ..(2)

ص: 104


1- علي محمد علي دخيّل / الإمام أمير المؤمنين (ع) ص 120-121 .
2- المصدر السابق ص122-123 .

هذا غيض من فيض بل هي مجرد أمثلة للوسائل والطرق التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلكها للوصول إلى الحكم وإظهار الحقيقة . وقد منحه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وسام القضاء الأعلى بقوله الشريف : (( أقضاكم علي )) وقوله (صلی الله علیه و آله وسلم) : علي بن أبي طالب أعلم أمتي واقضاهم فيما أختلفوا فيه من بعدي (1).

وأخرج إبنسعد عن أبي هريرة قال : قال عمر : علي أقضانا . وأخرج الحاكم عن إبن مسعود قال : أقضى أهل المدينة علي (2).

ومن خلال المتابعة والوقوف على جملة من المصادر المعتبرة , تبيّن أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو المثل الأعلى في القضاء الإسلامي على مر العصور , وكل قضاة الإسلام بعده عيال عليه. وحين كان في الكوفة كان قاضيها له شريحاً , وقد وضع له الإمام برامج تفصيلية لعمله في القضاء , ومع ذلك قال له : (( وإياك إن تنفذ قضية في قصاص أو حدٍ من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك عليَّ إن شاء الله)) (3).

وكان القضاة يجلسون في المساجد للحكم بين الناس , وكان للامام علي في جامع الكوفة أيام خلافته موضع يعرف بدكّة القضاء (4).

ص: 105


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص31 .
2- ابن حجر / الصواعق المحرقة ص76 .
3- البراقي / تاريخ الكوفة ص230 .
4- المصدر السابق ص232 .

إمتيازات لعلي (عليه السلام) وحده

ليس بين الصحابة من ميَّزه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وقدّمه كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) . وهذا الموضوع يطول الحديث فيه لكونه قد إستغرق فترة البعثة النبوية المباركة , فمن يوم الدار كانت البداية , يوم دعا الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) علياً (عليه السلام) لإعداد الطعام والشراب للمدعوين من عشيرة النبي الاقربين إستجابة لأمر الله تبارك وتعالى ولم يكلّف ابن عمه الاكبر من علي وهو جعفر بن ابي طالب (رضی الله عنه) وكان مسلماً - بالقيام بالمهمة . وظاهر الأمر ان القضية لم تكن مجرد القيام بمهمة اعداد المستلزمات والدعوة اليها بل هو : الفرصة التي وضع فيها رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) حجر الاساس لمستقبل قيادة الأمة ألمسلمة , القيادة التي خصصها الله تبارك وتعالى بمن يؤازر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) ويقف معه في تثبيت راية التوحيد والدعوة إلى الإسلام وكان الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) قد هيأ إبن عمه علياً لتلك القيادة – وهو«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)»(1) بقوله (( إنّ هذا أخي ووصييّ وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا))(2).

ومن باب الإختصار نذكر بعض الإمتيازات التي أثار أغلبُها حفيظة كبار الصحابة والمتنفذين منهم , وتمنى بعضهم لو نال إمتيازاً واحداً . واول تلك الإمتيازات :- زواج أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة الزهراء (عليها السلام) ولم يكن زواجاً هيّناً فالزوجة فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) والإقتران بها من أعظم الكرامات ولهذا الإعتبارخطبها أقطاب المسلمين وكان بينهم الخليفة أبوبكر

ص: 106


1- سورة النجم الآية 3 , 4 .
2- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث 43 ص162 ذكره ثمانية وثلاثون مصدراً .

والخليفة عمر , وقد ردَّ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) جميع الخاطبين بقوله : اني أنتظر بها أمر السماء . يقول عبد الله بن مسعود : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في غزوة تبوك يقول ونحن نسير معه : إنّ الله لمّا أمرني أن أُزوّج فاطمة من علي ففعلت , قال جبرائيل : إنّ الله تعالى بنى جنّة ... قلت – والقول لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) - لمن بنى الله هذه الجنّة ؟ قال بناها لفاطمة إبنتك وعلي بن أبي طالب (ع).

وكانت فاطمة (عليها السلام) عظيمة المنزلة عند الله جل جلاله وعند رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ففي القرآن المجيد شملتها آية التطهير (1) كما شملتها آية المودّة (2)وكذلك آية المباهلة (3).

أما في الحديث النبوي الشريف فقد ورد في حقها عدة أحاديث منها بالمعيّة ومنها بالخصوصية (4).

الإمتياز الثاني : ذكره الطبراني والحاكم عن أم سلمة قالت : كان رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) إذا غضب لم يجترئ أحد أن يكلمّه الاّ علي (5) فلم يكن المحيط الذي يعيش فيه النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) خالياً من الجهلة والمتعجرفين حتى بعد إسلامهم وصحبتهم , وقد خاطبهم القرآن المجيد بما يقوّم من تصرفاتهم , فمنهم من ينكر على النبي قولاً أو عملاً أو يعترض بأُسلوب غير لائق , ونتيجة لمثل تلك التصرفات المقصودة أو العفوية يظهر على النبي نوع من الإنزعاج وفي هذه الأثناء لا يجرؤ أحدٌ أن يكلمه الاّ أمير المؤمنين علي(ع)

ص: 107


1- سورة الأحزاب الآية 33 .
2- سورة الشورى الآية 23 .
3- سورة آل عمران الآية 61 .
4- الدكتور حسن عيسى الحكيم / فاطمة الزهراء شهاب النبوة الثاقب من 96-98 .
5- ابن حجر / الصواعق المحرقة الحديث 14 ص72 .

الإمتياز الثالث : المسجد النبوي الشريف عتبة مقدسة , فمن يجد له علاقة مادّية بالمسجد يكون مصدر فخر له في الدنيا . وكان لكبار الصحابة أبواب مفتوحة على المسجد تسمى بأسمائهم , وحصل أن أمر (صلی الله علیه و آله وسلم) بسد الأبواب عدا باب واحد . فعن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أبواب شارعة في المسجد فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) يوماً : سدّوا هذه الأبواب الاّ باب علي , فتكلم في ذلك ناس , فقام رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد , فإني أُمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي , فقال فيه قائلكم , والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكن أُمرت بشيء فاتبعته(1). ويعزز, ذلك الخبر المروي عن علي بن الحسين بن فضال . قال : سألت الرضا (عليه السلام) .. قال : أما علمت أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : أنا وعلي أبوا هذه الأمّة ؟ قلت بلى قال أما علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أبٌ لجميع أُمته وعلي بمنزلته فيهم ؟ (2) فهل يجد غيره (عليه السلام) مكاناً له في هذا التكريم وهذا التميّز ؟

الإمتيازالرابع : في أكثر من مناسبة قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) (( علي منّي وأنا من علي ولا يؤدي عنّي الاّ انا او علي))(3) وفي كلام رسول الله هذا حصر لا يقبل البدائل وهو من باب الإنفرادات العلوية . ويعضد ذلك ما حصل في موضوع سورة التوبة (( سورة براءة )) إنّ النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) دفعها إلى أبي بكر لينبذ بها عهد المشركين , فلما سار غير بعيد نزل جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال له : إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك الاّ أنت أو رجل

ص: 108


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى .. الحديث 107 ص255 ذكره واحد وثمانون مصدراً .
2- المجلسي / بحار الأنوار 36 : 5 باب 26 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى الحديث 125 ص279 ذكره 43 مصدراً . وانظر بن حجر – الصواعق الحديث 36 .

منك . فاستدعى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) علياً (عليه السلام) وقال له : الحق أبا بكر فخذ براءة من يده وامض بها إلى مكة وانبذ بها عهد المشركين (1).

الإمتياز الخامس : بعد أن استقر (صلی الله علیه و آله وسلم) في المدينة المنوّرة نزلت عليه أكثر من آية تدعوه إلى أن يجاهد . قال تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(2) وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يغزو بنفسه , ويعقد الوية الجهاد لآخرين , وفي جميع غزواته والمعارك التي خاضها – عدا تبوك – كان لواؤه (صلی الله علیه و آله وسلم) بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) . عن جابر بن سمرة أنهم قالوا : يا رسول الله من يحمل رايتك يوم القيامة ؟ قال : من عسى أن يحملها يوم القيامة إلاّ من كان يحملها في الدنيا , علي بن أبي طالب (3).

والراية في المعركة تمثل وجوداً وقيمة إعتبارية مركزية , فما دامت مرتفعة فإنّ المحاربين ثابتون بوجه العدو , وبسقوطها يحل الانكسار والهزيمة كما حصل في معركة مؤتة حيث فشل جيش المسلمين في تحقيق النصر على الروم . وحين أسقط أمير المؤمنين (عليه السلام) الراية الكبرى لهوازن في معركة حنين إنكسرت هوازن وتحقق النصر للمسلمين . وهذا يعني أنّ راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لا يمكن أن تسقط لأنها بيد علي (عليه السلام) الذي لم ينهزم ولم يخسر معركة في حياته .

الإمتياز السادس : من صفات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) التي لا يشاركه فيها أحد من الناس أنّه قسيم الجنة والنار , وهذا الإمتياز وثقه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بقوله : عن علي الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) إنّه (صلی الله علیه و آله وسلم) قال

ص: 109


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص49 – 50 .
2- سورة التوبة الآية 73 , وانظر سورة التحريم الآية 9 وسورة الفرقان الآية 52 .
3- الفتلاوي / الكشاف النتقى– الحديث 207 ص386 ذكره ستة عشر مصدراً .

لعلي : (( أنت قسيم الجنّة والنار في يوم القيامة تقول للنار هذا لي وهذا لك )) (1)وتؤكده شهادة الخليفة أبي بكر : روىإبن السمّاك أن أبا بكر قال له : سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يقول : لا يجوز أحد السراط الاّ من كتب له عليٌ الجواز (2)كما يؤكدهُ قول رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : عن إبن عباس قال : نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى علي (عليه السلام) فقال : لا يحبك الاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق , من أحبك فقد أَحبني ومن أبغضك فقد أبغضني , وحبيبي حبيب الله وبغيضي بغيض الله , ويل لمن أبغضك بعدي (3)ومن باب تحصيل الحاصل فان المؤمن مصيره إلى الجنّة وليس للمنافقين إلاّ النار .

الإمتياز السابع : وهو مسك ختامها , وأخطرها منزلة , وأعظمها مردوداً . فقد خصه الله تبارك وتعالى بالإصطفاء , وطلب من الرسول الإعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) إعلان ذلك بقوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(4) وبلّغ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) عند رجوعه من حجة الوداع في (( غدير خم )) قائلاً : ... من كنت مولاه فعلي مولاه . اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .(5) ونُصبت له خيمة تلقى فيها التهنئة من المسلمين وكان كبار الصحابة يقولون له (عليه السلام) بخ بخ لك يا علي ..

ص: 110


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقي .. الحديث 55 ص185 ذكره 38 مصدراً .
2- ابن حجر / الصواعق المحرقة ص75 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقي ... الحديث 145 ص305 ذكره خمسة وعشرين مصدراً .
4- سورة المائدة الآية 67 .
5- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث 208 ص387 ذكره 172 مصدراً .

نعم : إنّها ذروة التميّز , أن يكون علي (عليه السلام) مولى لكل مؤمن ومؤمنة . وبهذه المنزلة يخلف رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ويكون له ما لرسول الله من إمتيازات ..

بقي ان نشير إلى حقيقة تستحق الإهتمام يجدها المتتبع لكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي وثقها الرواة وأصحاب الصحاح والسنن والمسانيد , تلك هي المنزلة العلوية التي تسيّدت تلك الأحاديث , والنص على عليّ بالإسم دون بقية الصحابة – إلاّ ما ندر– وليس بالإمكان ذكرها جميعاً لكثرتها , فعلى سبيل المثال لا الحصر : نشر كاظم عبود الفتلاوي في كتابه (( الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضى )) مائتين وثمانين حديثاً بهذا الخصوص , جمعها من صحاح ومسانيد وكتب أعلام أهل السنّة , ومن البديهي أن كتب الحديث عند الشيعة الإماميةغنيّة بمثل تلك الأحاديث . وهذه بعض تلك الأقوال النبوية :

علي منّي وأنا من علي

علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي

علي أخي في الدنيا والآخرة

علي أحب خلق الله إلى الله ورسوله

علي مع القرآن والقرآن مع علي

علي إمام المتقين وأمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين

علي الصدّيق الأكبر

ص: 111

علي الفاروق بين الحق والباطل

علي حامل لوائي في الدنيا والآخرة

علي باب علمي ومبيّن لأُمتي ما أُرسلت به

علي أولكم وروداً على الحوض

علي قسيم الجنّة والنار

علي أقضى أُمتي

علي بن أبي طالب باب حطّة

علي وصيي ووارثي

علي يزهر في الجنّة ككوكب الصبح لأهل الأرض

علي عيبة علمي

علي مع الحق والحق مع علي

علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين

إنّ الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي

أنا مدينة العلم وعلي بابها

أنا دار الحكمة وعلي بابها

أنا وعلي حجة الله على عباده

ص: 112

بغض علي سيئة لا تنفع معها حسنة

لا يبلّغ عني إلاّ علي

ذكرُ علي عبادة

النظر إلى وجه علي عبادة

صاحب سري علي

من كنت مولاه فعلي مولاه

لا يحب علياً إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق

أشقى الأولين والآخرين قاتل علي

أنا المنذر , والهادي من بعدي علي

إنها تذكرة لمن أراد القرب من الله ورسوله , وقد كشف رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بما لا لبس فيه : إنّ علياً لا يشاركه مسلم في علو درجته ولا يُنكر منصف دوره في إعلاء كلمة الله والذود عن الرسول والرسالة .

ص: 113

الآثار العلَوية في العلوم الأنسانية

قبل الوقوف على التنوّع المعرفي الذي اضطلع به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وقت مبكّر وفي بيئة يندر أن تجد فيها من يحسن القراءة والكتابة , بيئة يسود فيها العنف والعرف السقيم واستغلال الضعفاء وعبادة الأصنام وظاهرة الرق وما إلى ذلك من التردي السلوكي والتخلف العلمي, يجدر بنا الإشارة إلى إنّ علي بن أبي طالب حظي باحتضان المصطفى (صلی الله علیه و آله وسلم) له فسمع منه وتأثر به وهو المختار لرسالة الإسلام العظيم وقد زوده الله تبارك وتعالى بما يحب ويرضى من العلوم والمعارف فأودعها (صلی الله علیه و آله وسلم) في فكر علي وروحه وقلبه , ودعا له أن يكون حافظاً وواعياً .

لقد عاش الإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فترة الإقصاء فكرّس وقته لتدوين القرآن المجيد ولكنه ما كان يتخلى عن واجبه تجاه الإسلام والمسلمين , اما العلوم والمعارف الإنسانية التي كان لأمير المؤمنين الفضل في إحيائها فهي كثيرة تناول إبن شهر آشوب معظمها واهتم بموضوع سبْق الإمام إليها , ويقول : ومن عجيب أمره أنّه لا شيء من العلوم الاّ وأهله يجعلون علياً قدوة , فصار قوله قِبلة(1) ومن ذلك – باختصار –

علوم القرآن : فكان (عليه السلام) من ألصق الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) حتى أثناء نزول الوحي عليه . فيقول (عليه السلام) : والله ما نزلت آية إلاّ قد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى ما نزلت , إنّ ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً ناطقاً ... سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلاّ عرفت بليل نزلت

ص: 114


1- مناقب آل ابي طالب 2 : 40 .

أم بنهار أم في سهل أم جبل (1) وكان (عليه السلام) أول كاتب للوحي وأول جامع للقرآن .. (( وقد أُتيح له أن ينصرف إلى دراسة القرآن فاتقنه نصاً , وعاشه جوهراً فاستقام به لسانه كما إستقام به جنانه )) (2) قال إبن مسعود : ما رأيت أحداً أقرأ من علي بن أبي طالب للقرآن (3)وفي التفسير شهد له الشعبي بقوله : ما أحد أعلم بكتاب الله بعد نبي الله من علي بن أبي طالب .(4) وكذلك السنّة النبوية الشريفة رديف القرآن فقد كانت من الدروس اليومية لأمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه المرافق الدائم لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) واكثر المسلمين مشاهدة لفعل النبي وحفظاً لحديثه , فقد كان يسمع ما يسمعه الآخرون ومالم يسمعوه (( ويقال : إنّ علياً لم يكن يروي من الحديث إلاّ ما سمعه بنفسه من الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) لأنه كان مطلق الإيمان بأن كلمة واحدة من حديث النبي لم تفت قلبه وأُذنيه ,وقيل له : مالك أكثر أصحاب رسول (صلی الله علیه و آله وسلم) حديثاً ؟ قال : إني كنت إذا سألته أنبأني واذا سكت إبتدأني )) (5)وهو (عليه السلام) قد أسس العناية بالحديث وبصحة نقله , واعتماده في تفسير وتحديد ما يريده الله ورسوله (صلی الله علیه و آله وسلم)

إنّ الإلمام التام بالقرآن المجيد وبالحديث النبوي الشريف يحقق إحاطة تامة بالفقه . وقد شهد رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) بتفوّقه على المسلمين عامة بالقضاء بقوله الشريف (( أقضاكم علي )) أي أنه أعلمهم بالفقه وتفاصيل الشريعة المقدسة , ولم يكن كغيره ممن يحسب على الفقهاء والقضاة التقليديين بل كان يمتلك عقلاً كاشفاً وفراسة نادرة واختبارات ناجحة

ص: 115


1- ابن حجر / الصواعق المحرقة ص77 .
2- جورد جرداق / الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص71 .
3- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 2 : 42 .
4- المصدر السابق 2 : 43 .
5- المصدر السابق 2 : 45 .

لأساليب التحقيق وحل المعضلات حتى صار قدوة ونبراساً لغيره من القضاة . وهو واضع أسس الحق العام لحفظ حقوق الضعفاء , ومنع الإفلات من العقوبة , ووضع الأسس لطريقة إستجواب الشهود , واعتماد التدوين للإفادات . وهو الذي سن قاعدة المساواة بين المتخاصمين أمام القاضي وذلك في قضية الدرع المقامة أمام الخليفة عمر بن الخطاب وكان الإمام علي (عليه السلام) يدّعي ملكيتها وخصمه ( اليهودي ) ينكر ذلك . فلما دعا الخليفة الإمام للوقوف إلى جنب خصمه اليهودي كنّاه بقوله : قف يا أبا الحسن إلى جانب خصمك , فامتعظ من تفضيله بالكنية دون خصمه , وطلب أن يتساوى الخصمان في المعاملة أمام القضاء , وبكامل تفاصيلها .

كما وضع الإمام الأُسس التي يتم إختيار القاضي عليها , أبرزها الكفاءة العلمية والصحية والأخلاقية بأدق مفرداتها , فعلى سبيل المثال : ولّى الإمام : أمير المؤمنين (عليه السلام) أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله , فقال الدؤلي مستفسراً من الإمام : لمَ عزلتني , وما خنت وما جنيت ؟ فاجابه الإمام : إنّي رأيت كلامك يعلو كلام الخصم . أي أنّ الدؤلي لم يكن ممن يتحلون بالحلم فالقاضي عليه أن يكون رحب الصدر لا تضيق به الأُمور عند تنوّع الخصومات وتضارب أوجه القول فيها ... فلا ينهر أو يعلو صوته على صوت المتخاصمين (1).

بهذه الدقة كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضع المعايير لتكون منطلقاً إلى العدل , ولم يكن يوماً متطرفاً أو مغالياً في أحكامه وآرائه بقدر ما كان مقتدياً بأوامر الله تعالى وبأخلاق رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) . وهو حتى في عبادته

ص: 116


1- فاضل عباس الملا / الإمام علي ومنهجه في القضاء ص79 وما بعدها .

يمتاز عن الآخرين كافة بجعلها مزيجاً من الحب والتقديس لذات الله والتعبير الشفاف عن العلاقة بين الوجود الصافي ونفسه الصافية , إنّها عبادة الأحرار كما يسميها (عليه السلام) , وقد بلغت حد الوصف . ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة .

وفي حقل مهم آخر دفع (عليه السلام) المتتبعين للتفكير والتأمل والتبصر , فما كان يكتفي من الدين بظاهره بل جعله موضوعاً للفكر المحض والدراسة الخالصة والتأمل . ومن هنا نشأعلم الكلام أو فلسفة الدين , فكان (عليه السلام) أول المتكلمين بل أبا علم الكلام (1). يقول إبن شهر آشوب : وهو الأصل في الكلام وإنّ أول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق , علي . وعن أبي بكر بن مردويه في كتابه عن سفيان إنه قال : ما حاجَّ عليٌ أحداً الاّ حجة (2).

وقال إبن أبي الحديد في شرح الخطبة 84 : (( إعلم أنّ التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية ما عُرفت الاّ من كلام هذا الرجل , وأنّ كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلاً , ولا كانوا يتصورونه , ولو تصوّروه لذكروه . وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله (ع)(3).

وفي الفلسفة هو الأرجح , قال أبو علي بن سينا : لم يكن شجاعاً فيلسوفاً قط الاّ علي , وكمثال لأجوبته الفلسفية : سئل (ع)عن العالم العلوي فقال : صورٌ عارية عن المواد , عالية عن القوة والإستعداد تجلى لها فاشرقت وطالعها فتلألأت , وألقى في هويتها مثاله فاظهر عنها أفعاله وخلق الإنسان

ص: 117


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الإنسانية ص74 .
2- مناقب آل ابي طالب 2 : 45 .
3- نهج البلاغة / شرح ابن أبي حديد 6 : 346 .

ذا نفس ناطقة زكاها بالعلم فقد شابهت جواهر أوائل عللها , وإذا إعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد (1).

أما علوم العربية فلا يختلف عارفان على أنّ واضع أساساتها أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بما أوتي من تبحر فيها وبما يملك من منطق متقن ومقدرة عقلية خارقة في الوزن والقياس , وهو واضع علم النحو , وقصته مشهورة مع تلميذه إبي الأسود الدؤلي في الكوفة وقوله له : اكتب ما أملي عليك : إنّ كلام العرب يتركب من إسم وفعل وحرف , فالاسم ما أنبأ عن المسمى , والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى , والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بإسم ولا فعل وإنّ الاشياء ثلاثة , ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر – ويعني إسم الاشارة –إنحو هذا النحو (2).

وعلّم عبيد الله بن أبي رافع الخط العربي فقال له : ألق دواتك , وأطل جلفة قلمك وفرّج بين السطور , وقرمط بين الحروف فإنّ ذلك أجدر بصباحة الخط (3).

وليس غريباً أن يسن أمير المؤمنين للعرب أعلى درجات الفصاحة وفنون الخطابة لما اجتمعت فيه من القدرات التي لم تجتمع لغيره , فكان لطيف الحس نقي الجوهر وضاء النفس سليم الذوق مستقيم الرأي حسن الطريقة سريع البديهة حاضر الخاطر .. مع نفح إلهي والهام قدسي مكنت الإمام من وجوه البيان وملّكته أعنّة الكلام (4)ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة

ص: 118


1- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 49 .
2- جورج جرداق / المصدر السابق ص76 .
3- محمد عبده / نهج البلاغة 3 : 228 .
4- ابن ابي الحديد / شرح نهج البلاغة 1 : 4 , 5 .

... ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس . قال له : ويحك كيف يكون أعيا الناس , فواللهماسنّ الفصاحة لقريش غيره (1)وقال الشريف الرضي : كان أمير المؤمنين مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه ظهر مكنونها وعنه أُخذت قوانينها (2).

وعقد إبن شهر آشوب باباً لمسابقة الإمام علي في العلوم , جمع فيه ما أشتهر عنه (عليه السلام) من تفوق وتأسيس . فقال : الفرضيون هو أشهرهم ؛ ففي فضائل أحمد قال عبد الله : إنّ أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب , وقال الشعبي ما رأيت أفرض من علي .

وفي باب الخطابة : فهو أخطبهم , وهذا نهج البلاغة خير شاهد على ذلك . أما الشعر والشعراء : قال الجاحظ في البيان والتبيين , والبلاذري في أنساب الأشراف : إنّ علياً أشعر الصحابة وأفصحهم وأخطبهم وأكتبهم . أما العروض : فمن داره خرجت العروض , روي أنّ الخليل بن أحمد أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب الإمام محمد بن علي الباقر أو علي بن الحسين 3 فوضع لذلك أُصولاً . وفي الوعظ : فليس لأحد من المواعظ والأمثال والعبر ماله (عليه السلام) , وصنّف عبد الواحد الآمدي غرر الحكم من كلامه (عليه السلام) . كما أنه أظهر براعة ومعرفة بالفيزياء فقد طبّق ما عرف بنظرية فيثاغورس لمعرفة وزن فيل . وهو بين أصحاب الحساب أوفرُهم نصيباً بدليل ما حكاه إبن أبي ليلى في القضية المعروفة بقضية الأرغفة وملخصها : إنّ رجلين تغدّيا في سَفر ومع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر

ص: 119


1- المصدر السابق 1 : 24 , 25 .
2- ابن شهر آشوب / المناقب 2 : 48 .

ثلاثة . وواكلهماثالث , وأعطاهما ثمانية دراهم عوضاً . فاختصما وارتفعا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) , فحسب لصاحب الثلاثة أرغفة درهماً واحداً , ولصاحبه سبعة دراهم . وأوضح لهما الحل فقال : ثمانية أرغفة تساوي أربعة وعشرين ثلثاً , لصاحب الثلاثة , تسعة أثلاث , أكل منها ثمانية , وبقي ثلث واحد , وصاحبه له خمسة عشر ثلثاً , أكل منها ثمانية وبقي سبعة . والذي اكل معهما دفع ثمانية دراهم وأكل ثمانية أثلاث , فيكون لكل ثلث درهم فلصاحب الأرغفة الخمسة سبعة دراهم . وكان الحل شفوياً وفورياً . وهو بين أصحاب الكيمياء أكثرهم حظاً وكان (عليه السلام) يُجيب عن أسئلة السائلين حتى وهو على المنبر . وهو بين الأطباء أكثرهم فطنة وعنه (عليه السلام) أنه قال : الولد لستة أشهر ولسبعة أشهر ولتسعة , ولا يعيش لثمانية أشهر , وعنه في كثافة لبن أُم الولد وأُم البنت وكذا في تحديد نوع المولود (1).

هذا ما عُرف عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ووصل إلى الرواة والمؤرخين خبره . وهو لا يمثل الاّ غيضاً من فيض لأن الله تبارك وتعالى قد مكّن رسوله الأمين محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) من كل المعارف وأطلعه على جميع العلوم , وهو بدوره (صلی الله علیه و آله وسلم) قد علّمها لابن عمه علي (عليه السلام) فعن سلمان الفارسي رضی الله عنه عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : أعلم أُمتي من بعدي علي بن أبي طالب (ع)(2).

ص: 120


1- مناقب آل ابي طالب 2 : 44 – 53 .
2- الفتلاوي / الكشاف المتقى– الحديث 13 ص127 ذكره 18 مصدراً .

الأول بعد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم)

الإسلام شروق مصدره اللطف الإلهي , رحمة بالناس بعد فترة الرسالات السماوية السالفة , وبه ختم الله سبحانه وتعالى النبوّات . أختار له خير خلقه والمصطفى من عباده محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله وسلم) . بعثه للناس كافة بالمعجزة العظمى القرآن المجيد , وأيّده بالوحي الأمين يمدّه بما يرضي الله تبارك وتعالى ويسعد المؤمنين من عباده , فأتم الرسالة وأوصل الأمانة كاملة لمن يحملها من بعده , ولم يترك الرتل بلا قائد والرعية بدون راع يكافح ويجاهد للتوضيح والتأويل والنشر والتبليغ فكانإختياره (صلی الله علیه و آله وسلم) للأول من بين أهله وصحابته , الذي ربّاه كما ينبغي , وأحاطه بسور من الإيمان والعلم والإقتدار الذي لم يتهيأ لغيره , وقدّمه على جميع خلق الله . إنه أخوه ووارثه ووزيره علي بن أبي طالب (عليه السلام) . فهو أول من صدّق برسالته واول من صلى بجانبه وأول من حماه من أذى ناشئه الكفر وأول من قال : أنا يا رسول الله أُآزرك على هذا الأمر – في يوم الدار – وأول من فداه بنفسه ليلة نام بفراشه في شِعب أبي طالب , وفي ليلة الهجرة أيضاً , وأول فتى يحمل لواء الإسلام – راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) - في أول معركة مصيرية بين الإسلام والشرك معركة بدر الكبرى , كما كان أول كاتب للوحي , وأول جامع للقرآن , وهو أول من نزل بحقه من كلام الله العزيز في القرآن المجيد ثلاثمائة آية , وأول من تصدّق بخاتمه وهو راكع في الصلاة .

وقد أحتل المقام الأول بعد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) في الإيمان حتى قال الرسول عندما برز لعمرو بن عبد ود العامري دون كافة المسلمين (( برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلّه))وتفوق في كسب ثواب العبادة لله تعالى حتى قال الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) ((

ص: 121

ضربة علي لعمرو بن عبد ود العامري تعادل عبادة الثقلين )) فهل بعد هذا التفوق منزلة تستهدف ؟ .

ولو تتبعنا المواقف والحوادث التي صاحبت حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) لوجدناه الأول فيما لا يحصى منها . فهو الأول في القضاء بين قضاة المسلمين وأول القرّاء ومنه تعلموا قراءة النص القرآني الصحيح , واول من وضع أُسس جملة من العلوم التي يتحملها وقته . وهو أول مستشار ناصح للخلفاء الثلاثة الذين سبقوه باعترافهم , وهو أول وآخر من قال سلوني قبل أن تفقدوني , وأول حاكم في الدنيا يساوي نفسه مع المحكومين في الحقوق والواجبات وهو (عليه السلام) أول من شاطره رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) الهدي في حجة الوداع , وأُول خليفة لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يتولى أمور المسلمين بطريق البيعة العامة الخالية من التهميش والإكراه , وكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) الأولوية والتفرد بقوله : فزت ورب الكعبة . عندما ضربه أشقى الورى إبن ملجم فختم حياته في بيت الله كما بدأت في بيت الله . فسلام عليك سيدي أبا تراب يوم وضعت يديك على تراب أرض الكعبة ساعة ولدت فعّفر كفيّك , وسلام عليك يوم توسدت التراب شهيداً سعيداً بين الذكوات البيض من أرض النجف المعلى فشرفته , وسلام عليك يوم تقف على الصراط شفيعاً للمحبين الصادقين . جعلنا الله من المقبولين من شيعتك والناجين من النار بشفاعتك .

ص: 122

المساواة عند علي (عليه السلام) ترجمة للعدل الإلهي على الأرض

الناس متساوون في بدء النشأة فاصلهم واحد , فمن العدم إلى التراب إلى آدم ( وإنهم من آدم وآدم من تراب ) .

وإنّ مستقر الآدميين كان ولا يزال على الأرض فلا تجد منهم على أي كوكب آخر لحد يوم الناس هذا . وإنهم جميعاً يتنفسون الهواء الطلق , وياكلون الطعام ويشربون الماء , كما إنهم جميعاً يموتون . فهم جميعاً بهذه الصفات متساوون .

ومرّت القرون وتتابع على الناس رسل وأنبياء يحملون تعاليم السماء تلك التعاليم التي تتساوى في كلمة التوحيد والمساواة في الحقوق والواجبات في الحياة الدنيا كمبدأ عام إلاّ من كرّمه الله بقوله تعالى «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ»(1)ولم يكن ذلك خارج حدود العدل فالأفضلية لا تأتي الاّ لمن أحسن التصرف في قدراته وأعطى من نفسه لله وللناس ما استحق عليه هذا التفضيل. اما في الآخرة فتتحول الأُمور إلى سلّم الدرجات , فلأهل الجنّة مراتب ولأهل النار مراتب أيضاً و «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(2) .

هذا هو الدرس الذي تعلّمه إمام المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مدرسة النبي الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) , وعلى هذه الركائز شيد أمير المؤمنين منهاج حكومته وأعلن للناس (( أن تكونوا عندي في الحق سواء ))

ص: 123


1- سورة النحل الآية 71 .
2- سورة الحجرات الآية 13 .

ولو تتبعنا مجريات الأيام وما حملت في فترة خلافته (عليه السلام) لوجدنا ألثبات على هذا المبدأ في كل شيء , ويبدا بنفسه وأهله والخلّص من أصحابه والقائمين على مرافق الدولة على اختلاف مناصبهم ومسؤولياتهم , وإنتهاءً بآخر فرد من الرعية , فعطاؤهم واحد , والجميع أمام القضاء سواء , وإنّ الناس في المعاش أُسوة .. وأن أهل الحاجة أولى من أهل السابقة في الإسلام بالإموال العامة .

ولم يقتصر إهتمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بمساواة الناس بالعطاء ورفع الحيف عن المستضعفين والفقراء بل أهتم بالجوانب الحياتية والعقائدية فلم يفرض على الناس مالا يرضون من عقيدة أو طقوس , فعنده الناس أحرار في أن يؤمنوا بالله على ما يرون بشرط ألاّ يلحق ذلك الأذى بالجماعة فالخلق كلهم عيال الله والدين هو المعاملة (1)وهو (عليه السلام) صاحب القول الذي وحّد الناس وأزال الفوارق وصار عنواناً للمساواة والتسامح , وذلك في عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه) : (( ... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم فلا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فإنهم صنفان , إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق )) (2).

وأشتهر عنه أنه (عليه السلام) لم يرض حين كنّاه الخليفة عمر بن الخطاب في مجلس قضاء ولم يكنِّ خصمه – اليهودي– أي انه لم يساوِ بينهما فقال : خاطبتني بالكنية ولم تكنِّ خصمي فيداخله شيء من الرهبة . وحين دخل مع خصم له على شريح القاضي قام شريح إحتراماً للإمام فقال له : هذا أول جورك , إنّ قيام القاضي لأحد الخصمين جور . ومن الشواهد

ص: 124


1- جورج جرداق / الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص 137 .
2- نهج البلاغة 3 : 93 .

الخالدة على عدلة (عليه السلام) ومساواته بين الناس فعلته بأخيه عقيل مع علمه بأنه صادق في طلبه ولكن الحق جعله عبرة لغيره , فأحمى له حديدة وقرّبها من يده فضج عقيل من حرارتها فكان جواب الإمام قاطعاً ومذكراً بحرارة نار جهنم لمن يتعدى حدود الله . وقد سأله إبن أخيه عبد الله بن جعفر , معونةً أو نفقة , فقال له : لا أجد لك شيئاً الاّ أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك . وأراد أن يعاقب إبنه الحسن السبط (ع)على أخذه مقدارً من حقّه في عسل قبل القسمة . أما نصيبه من بيت المال فهو كنصيب خادمه , وأما السابقة في الإسلام فتقديره عند الله , والدنيا معاش والناس في المعاش سواء .

وهو (عليه السلام) أول من طبّق الحكم ب- ( من أين لك هذا ) وأعاد كثيراً مما أُخذ في أيام الخليفة عثمان بن عفان , بغير حق إلى بيت مال المسلمين حيث قال : ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإنّ الحق لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوّج به النساء , وفُرق في البلدان لرددته , فإنّ العدل في سعة ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق )) (1) وكان من دستور أمير المؤمنين في هذا الأمر قوله لمالك الأشتر : (( إياك والأستثئار بما الناس فيه أسوة )) (2)

ولو انعمنا النظر في مواقف أمير المؤمنين وسيرته سواء وهو خارج الحكم أو أثناء حكمه لشهدنا بصدق قول الشاعر :

ورثتْ شمائلُه براءة أحمد *** فيكاد من برديه يُشرق أحمد

ص: 125


1- محمد عبده / نهج البلاغة 1 : 42 .
2- محمد عبده / نهج البلاغة 3 : 120 .

لقد أسس أمير المؤمنين (عليه السلام) لحياة إسلامية متكاملة , صرحاً من القيم السامية والقوانين الحامية من الخلل والإنحراف , الموغلة في إحقاق الحق الملازمة لروح الإسلام وأهدافه الإنسانية الكريمة .

الإمام علي (عليه السلام) والحرّيات

اشاع الاسلام مبدأ الحرّية كركن من أركان الرسالة بقول الله تبارك وتعالى : «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(1) والذي يفيد نفي الدين الإجباري باعتبار الدين إعتقاد وايمان , وهو من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الاكراه والإجبار , فان الإكراه إنَّما يؤثّر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادّية(2) أي ان الفرائض والحدود والفعاليات التي يتطلبها تحقيق الشعائر والمناسك لا تخضع لإرادة المكلّف وإنما يتحكم فيها الإلزام , فالصلاة والجهاد والحج والصوم ونُصب الزكاة كلها من صميم الممارسات العبادية الملزمة , وهي ملزمة للحاكم والمحكوم بل إنّ الحاكم يفترض أن يكون أكثر التزاماً ليكون القدوة للاخرين .

والحقيقة إنّ جانباً من الحريات – الفردية والجماعية – قد انتهكت خلال الفترة التي سبقت خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) فبويع في فترة إختلط فيها الحق بالباطل , وساد فيها الحقد والطمع , وغاب فيها العدل والمساواة واستبدت فئة بمقدرات العامة واموالهم , وكان على الإمام وضع

ص: 126


1- سورة البقرة الآية 256 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 434 .

النقاط على الحروف بعيداً عن العنف وترفعاً عن التراخي . ولكي يلقي الحجة على من أصرَّ على بيعته , قال (عليه السلام) : دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله الوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول ؛ فقالوا : ننشدك الله ألا ترى ما نرى ؟ ألا ترى الإسلام ؟ ألا ترى الفتنة , ألا تخاف الله ؟ فقال : قد أجبتكم لما أرى , واعلموا إن أجبتكم , ركبت بكم ما أعلم ..(1) ولما تمت البيعة , قال (عليه السلام) : أيها الناس بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وانما الخيار قبل أن تقع البيعة , فإذا وقعت فلا خيار وإنما على الإمام الإستقامة وعلى الرعية التسليم . وإنّ هذه البيعة عامة من ردّها رغب عن دين الإسلام , وإنها لم تكن فلته (2).

وبدأ أولاً بإبدال عمال عثمان بمن هم ثقة عنده , ولم يتوقف (عليه السلام) عن التوجيه والإرشاد , وكان يكتب اليهم : أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم ... ويكتب لعامل : ... فعلّم الجاهل وذاكر العالم ولا يكن لك إلى الناس سفير الاّ لسانك , ولا حاجب الاّ وجهك .. وانْ أنتم لم تستقيموا على ذلك لم يكن أحد أهون عليّ ممن اعوجّ منكم ثم أُعظم له العقوبة , ولا يجد عندي فيها رخصة .

وهكذا أعلن أمير المؤمنين (عليه السلام) مسؤوليته في إقامة ماهو حق وتهديم ماهو باطل إعفاءً لهم من محاولة فاشلة قد يفكرون باللجوء إليها لمعصية إجتماعية أو إثم فردي .. ثم انه مطمئن إلى ما يعرفه الناس كل

ص: 127


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 434 .
2- الدينوري / الاخبار الطوال ص140 .

الناس من زهده وتعففه , اما تقواه فما كانت الاّ تقوى الأحرار لا خشية من عقاب ولا طمعاً في ثواب (1).

ويأتي دور أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في إرساء قواعد الحرّية في أدق موقف يبدا به حياته ألسياسية , فقد أباح للناس الحرية في موالاتهم له أو إعتزالهم بيعته , فهو يأبى كل ما ياتي عن طريق الضغط والإكراه (2) أما فيما يتعلق بحرية القول والعمل فقد خطا في ذلك خطوة رائعة تنسجم مع دستوره العام في الحقوق والواجبات وهي : أنه جعل من المحكوم نفسه رقيباً أعلى على الحاكم ومصدراً لأسلوبه في الحكم , فكان إذا ولّى أحدهم إقليماً من الأقاليم او مدينة من المدن أعطاه عهداً يقرأه على الناس فاذا أقرّه الناس كان هذا العهد عقداً بينهم وبينه لا يجوز لهم أن ينحرفوا عنه ولا يجوز للحاكم أن يتأوّله أو يخالفه في كثير أو قليل , أما إذا إنحرف عنه فإن الإمام يوجب عليه العقوبة وينفذها فيه من فوره (3).

ولو أستعرض المرء لفظة الحرية في ذلك العصر لما وجد لها مدلولها الواسع العام الاّ في نهج الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول : (( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً )) وكان كلامه موجهاً إلى الناس كافة وليس لفئة وقعت تحت طائلة الأسر مثلاً . لقد أراد الإمام (عليه السلام) من الإنسان أن يثق بنفسه ويستشعر روح الحرية ومعناها .. وإنّ الناس لهم وحدهم الحق في أن يقرروا مصيرهم إستناداً إلى أنهم أحرار حقاً , لا رأي في ذلك لمن يريد

ص: 128


1- جورج جرداق / الامام صوت العدالة الانسانية ص108 – 109 .
2- المصدر السابق ص105-106 .
3- المصدر السابق ص107 .

ان يسلبهم هذه الحرية أو يمنحهم إياها (1).كما جعل الإمام حرية الفرد مرتبطة بحرية الجماعة , فوسع معنى الشعور بالمسؤولية ولذلك لم يجعل المسؤولية بحدودها الشكلية الظاهرة هي المحرّك والباعث على العمل الصالح بل جعل الحرية نفسها مسؤولة , وجعل الاحرار مسؤولين , وناط مقدار هذه المسؤولية بمقدار الحرية (2).

ومن أقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) في موضوع الحرية التي تحدد المعاني الدقيقة لمفهوم الحرية في الحقول كافة قوله : الحرية منزَّهة من الغل والمكر .

لا يسترقَّنك الطمع وقد جعلك الله حراً .

من قضى ما أسلف من الإحسان فهو كامل الحرية .

إياك وكل عمل ينفّر عنك حراً ويذل لك قدراً ويجلب عليك شراً وتحمل به يوم القيامة وزراً .

مَن أوحشَ الناس تبرأ من الحرية ..(3)

وهكذا نصل إلى أن الإمام علي (عليه السلام) هو أول من أيقظ الناس على مفاهيم الحرية الصحيحة , ويقيناً انه يعنيها ويمارسها ويطبّق بعض مصاديقها تطبيقاً عملياً , ومن ذلك : امرُه مع أهل القرية الذين شاؤوا ان يحفروا مجرى النهر الذي عفا ودرس , فطلبوا إلى عامله على قريتهم أن يسخرهم في العمل , فأمره علي (عليه السلام) بألاّ يسخّرهم بل يطلب اليهم أن

ص: 129


1- المصدر السابق ص110 – 111 .
2- المصدر السابق ص116 – 117 .
3- الحاج محمد هويدي / التفسير المعين للواعظين والمتعظين – بهامش المصحف المفسر ص42 .

يعملوا في الحفر ويتقاضوا على ذلك أجراً , ثم أن يكون الأجر والنهر فيما بعد لمن عملوا بملء حريتهم ولمن شعروا بأنهم مسؤولون عمّا عملوه وهم أحرار في أن يثابوا خيراً وفي أن لا يثابوا (1).

الإمام علي (عليه السلام) والولاة

لا خلاف في أنّ الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) هو الذي وضع حجر الاساس لحكومة المسلمين في المدينة المنورة , وخلال السنوات العشر التي قضاها فيها كان هو الإمام وهو الحاكم وهو القاضي إلاّ في أطراف الجزيرة العربية كاليمن مثلاً التي آمنت بالدين الجديد , ومكة المكرمة بعد الفتح فان الرسول عيّن من يتولى تنظيم شؤون الناس وعلاقاتهم العامة وما يتطلبه الظرف من حماية وقضاء وإمامة وإرشاد .

وفي حقبة الخلفاء الراشدين إتسعت رقعة الدولة شرقاً وغرباً وخضعت مدن , ونهضت مدن , وكان لابد لكل حاضرة من حاكم او أمير يتولى أُمور

ص: 130


1- جورج جرداق / المصدر السابق ص117 .

الحكم فيها , وقد أُطلق عليهم صفة الولاة , يعّينهم الخليفة (( ليحكموا بين الناس بالحق والعدل , ويعملوا على إصلاحهم وعمارة بلادهم))(1).

والامارة وظيفة محفوفة بالمخاطر المعنوية , فهي منزلق سحيق يتهيب المؤمنون الرضا بها والإستمرار عليها , يقول المقداد بن الأسوَد : إستعملني رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) على عمل , فلما رجعت قال : كيف وجدت ألإمارة ؟ قال: يا رسول الله ما ظننت إلاّ أن الناس خول لي , والله لا ألي على عمل ما دمت حياً .(2) ولا تخلو الساحة من المؤهلين ممن أُترعت نفسه بالمثل الكريمة والإيمان بالله والإلتزام بشروطها . وعندما قال أحدهم عند النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) : بئس الشيء الإمارة فقال (صلی الله علیه و آله وسلم) له : (( نعم الشيء الإمارة لمن اخذها بحقها وحلها)).

ويكون إعتماد الولاة ممن تتوفر فيهم الصفات المحمودة كالصدق في القول والوفاء بالعهد والوعد وأداء الأمانة وتجنب الخيانة وحسن الخلق مع الرعية والتفقّه في القرآن ومعرفة أحكامه وعدم التكبر والإستعلاء(3).

فلما صارت الخلافة لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) أبى إلاّ أن يعدل في الذين إنتفخت أجوافهم وطمحت أبصارهم , فعزل منهم من عزل وأبعد عن السلطان والإحتكار من أبعد , وحارب من تحدّثه نفسه بأن يحوّل الرسالة عن مجاريها العادلة وكان يقول : إنّي لأعرف ما يصلحكم ولكن لا أُصلحكم بفساد نفسي .(4)وعيّن ولاة آخرين تمّ أختيارهم ممن عُرفوا بالاستقامة . وكان يوصي عمّاله باتباع ما ينبغي أن يتحلى به الوالي كأن يكون مطيعاً لله

ص: 131


1- باقر شريف القرشي / نظام الحكم والادارة في الاسلام ص359 .
2- المصدر السابق ص 360 .
3- المصدر السابق ص360 – 362 .
4- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص65 .

عادلاً بين الرعيّة رحيماً لا يفرّق بين الغريب والقريب أو بين السادة والعبيد , وان يكون متواضعاً وعفيفاً لا تغيّر السلطة من إتزانه .

وبهذه الحملة إصطدم الإمام (عليه السلام) بوالي الشام معاوية بن ابي سفيان الذي رفض البيعة وأعلن التمرّد .

والحقيقة إنّ الميزان الذي وضعه الإمام (عليه السلام) للولاة كان من النوع الذي لا يقبل النقص . ومن هنا حصلت المفارقة الحادّة بين وجهة نظر الإمام والتزاماته الملازمة للحق , وبين من يصدر عنهم مالا ينسجم مع تطلعات الإمام ولا يتواءم مع توصياته وتعليماته , فإنّ بعضهم يغلب عليه الطبع الخفي أو تضعف إرادته أمام عظمة المهمة التي أوكلت إليه بما فيها من صلاحيات وما يصاحب العمل من مغريات مادية ومعنوية ؛ وكان أمير المؤمنين يطبّق ما سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في هذا الميدان , فيلاحق ويوّجه ويحاسب ويعزل ويصادر عند التحقق من الخيانة .

لقد كانت فترة خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مثقلة بالمخلفات السلبية , يقول جورج جرداق : كانت الخلافة قبل أن تؤول إلى علي بن أبي طالب آخذة بالتحوّل إلى ملك أموي أو أنها قد تحولت بالفعل , وكان الولاة قد تعوّدوا الولاية على أنها حق لهم يعود بأسبابه إلى الحسب والنشأة وإلى ما يبذل في تثبيته من أموال ورشوات ومداورات ومساومات . أضف إلى ذلك أن خلافة عثمان قد أتاحت الفرصة لهؤلاء الولاة (1). وليس ذلك بغريب على فئة جرت الجاهلية في شرايينهم , ولم يمكّنوا الإسلام من تنقية

ص: 132


1- الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص 101 .

ضمائرهم ونفوسهم من نزعة التسلط وجعل مفاتيح الأموال في أيديهم وتحت تصرفهم ؛ لا يريدون الإذعان إلى أخلاق الإسلام بل يعيشون غطرسة أبي سفيان وعنجهية أقطاب أميّة .

لقد واجه الإمام علي (عليه السلام) مجتمعاً يأكل قويّهم ضعيفهم , وقد أُطلقت أيدي النافذين منهم والحاكمين في الأرزاق والأعناق . وكان عليه أن يتصدى لهذه الهجمة الشرسة وان يضع حداً لهذا التشويه المقصود لرسالة الإسلام . وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) شديداً في إحقاق الحق , فقد روي عن أبي سعيد الخدري , قال : شكا علي بن أبي طالب الناسُ إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فقام فينا خطيباً فسمعته يقول : أيها الناس لا تشكوا علياً فو الله انه لأخشن في ذات الله وفي سبيل الله (1). نعم كان (عليه السلام) مثالاً للحاكم العادل الصلب في قراراته . ومن مصاديق ذلك مواقفه تجاه الولاة في وقته , فعندما يتأكد من زلة قدم أي منهم – مع حسن إختياره لهم ولكنهم بشر – فلا يتاخر في مباشرة إجراءاته تبعاً للحالة , وقد يضطر إلى فرض العقوبات اذا هم خانوا أو تجاوزوا على مال الشعب صغيراً كان أو كبيراً .

لقد أخبره أحدهم بأن والياً أو عاملاً بات على غصب أو أحتكار , فاذا به يوجه إليه قولاً شديداً : (( بلغني أنك جرّدْتَ الأرض فاخذت ما تحت قدميك واكلت ما تحت يديك , فارفع إليَّ حسابك ..(2)وبلغه أن عاملاً آخر يأكل ما تحت يديه من أموال العامة , فبعث إليه على عجل : ... إتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإنّك إنْ لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله

ص: 133


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى .. الحديث 75 ص225 ( ذكره 35 مصدراً ) .
2- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الإنسانية ص123 وعن نهج البلاغة تحقيق السيد هاشم الميلاني ص641 وفيه : واعلم ان حساب الله أعظم من حساب الناس .

فيك .. والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة حتى آخذ الحق منهما (1).وأرسل الإمام (عليه السلام) رجلاً يدعى سعد إلى زياد – بن أبيه –يامره بان يحمل إلى بيت المال ما عنده منه , وكان قد بلغه أن زياداً يتقلب في النعيم وانه يتظاهر بالفضيلة , وألحَّ الرسول على زياد فتجبّر زياد وتكبّر ونهره , فكتب إليه الإمام علي (عليه السلام) : إنّ سعداً ذكر لي أنك شتمته ظالماً وجبهته تجبّراً وتكبّراً .. وأَخبرني أنك مستكثر من الألوان في الطعام .. وأخبرني أنك تتكلم كلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين , وان كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك أحبطت ..(2)

وكتب إلى عامل له قائلاً : بلغني عنك امر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهَك وأغضبت إمامك , إنك تقسم فيء المسلمين فيمن اعتامك من أعراب قومك , فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لئن كان ذلك حقاً لتجدنَّ بك عليَّ هواناً ولتخفنَّ عندي ميزاناً , فلا تستهن بحق ربك ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين اعمالا(3).

ومما كتبه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة , وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة : أما بعد يا بن حنيف , فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فاسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل اليك الجفان ... فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم , فما اشتبه عليك علمه

ص: 134


1- نهج البلاغة / تحقيق الميلاني ص644 .
2- الامام علي صوت العدالة الأنسانية ص124 .
3- نهج البلاغة / تحقيق السيد الميلاني ص646 .

فالفظه , وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه .. فاتق الله يا ابن حنيفولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك (1).

ومن كتاب له إلى المنذر بن الجارود العبدي , وقد خان في بعض ما ولاّه من اعماله : أمّا بعد , فإنّ صلاح أبيك غرّني منك وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله , فاذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواكإنقياداً ولا تبقي لآخرتك عتاداً , ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك , ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسدّ به ثغر أو ينفذ به أمر ... فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا (2).

وقد يخال للبعض أن ألإمام(عليه السلام) يغالي في مثل هذه المحاسبة الدقيقة للولاة , غير أنه حين يدرك أن الإمام قد ركّز هؤلاء على صعيد مادي يكفيهم الحاجة , ولا يجوز من بعده الإرتشاء أياً كان لونه .. يعرف عند ذلك أنه على حق , ولا مغالاة في الدقة , وهذه الشدّة التي يعامل بها الولاة المسيئين يقابلها تشجيع للمحسنين منهم وإثابة (3).

من وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عماله

اشارة

تولى أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخلافة بعد ربع قرن من وفاة الرسول الاعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) ولم تكن تلك الفترة مطبوعة ببرنامج واحد وسيرة واحدة وانما توزعت بين ثلاثة خلفاء , ولكل واحد منهم سيرته واجتهاداته واذا ما قورنت بسياسة المؤسس الأول رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فلا تسلم من

ص: 135


1- المصدر السابق ص647 – 653 .
2- المصدر السابق ص704-705 .
3- الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص125 .

زيادات ونقصان بل وخروقات أثمرت تمرداً مسلحاً وذلك في أواخر فترة خلافة عثمان بن عفان , مما جعل أمير المؤمنين أمام مهمة غاية في الصعوبة حيث حاول بكل ما أوتي من قوة حمل الناس على سلوك نهج رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ولكنّه واجه أناساً تبدلت مراكزهم ومعايشهم واخلاقهم , واصطدم بقادة متنفذين وطامعين بل حاقدين على الإمام ونظامه الجديد الذي يتقاطع مع مصالحهم ونيّاتهم لاستلاب السلطة بأي ثمن (1).ولم يثنه ذلك عن التمسك بمنهجه , وكان من أوائل إجراءاته : عزل عمال من سبقه واستبدالهم بآخرين ممن يتأمل فيهم الصلاح والاصلاح , ولكن : وعلى الرغم من إتصافهم بالعدالة والتفقّه في الدين الاّ أن أغلبهم يفتقر إلى الممارسة الفعلية في مجال السياسة وادارة الحكم , ولهذا كان الإمام يزودهم بتفاصيل برامجهم ويطلعهم على أنجح الطرق في إدارة أعمالهم وذلك بوصاياه المحكمة المحيطة بمفردات المهمة وحيثياتها شفهياً وتحريرياً . ومن ذلك :

وصاياه (عليه السلام) في الأمور العسكرية :

من كتاب له (عليه السلام) إلى بعض أُمراء جيشه يقول فيه : فإن عادوا إلى ظلّ الطاعة فذلك الذي نحب , وإن توافت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان فانهد بمن إطاعك إلى من عصاك , واستغن بمن إنقاد معك عمن تقاعس عنك فإنّ المتكارهمغيبُهُ خير من مشهده وقعوده أغنى من نهوضه(2).

ص: 136


1- مجلة الاصالة – تصدر عن مؤسسة التراث النجفي – العدد المزدوج 18 , 19 , 20 . ص52 مقال بعنوان (( الأول )) لطالب علي الشرقي .
2- محمد عبدة / نهج البلاغة 3 : 6-7 .

ومن درر هذا التوجيه الكريم أنه قدّم السلم على الحرب وهو ديدنه في جميع مواقفه , وحروبه , ولفت نظر قائد الجيش إلى نقطة جوهرية وهي أن يتخلص بالإستغناء عن المتكارهين المتقاعسين عن المواجهة فإنهم نقطة ضعف في صفوف المجاهدين .

وفي وصيّة له وصى بها جيشاً بعثه إلى العدو , يرسم فيها إحداثيات المعركة وكيفية الاستفادة من الميدان , وينبه إلى نقاط القوة والضعف لدى الطرفين , فيقول : فاذا نزلتم بعدوٍ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قُبُل الأشراف وسفاح الجبال أو أثناء الأنهار , كيما يكون لكم ردءاً ودونكم مردّاً , ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو إثنين , واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلا يأتيكم العدو من مكان مخافةٍ أو أمن , واعلموا أنّ مقدمة القوم عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم , وأياكم والتفرق فاذا نزلتمفانزلوا جميعاً واذا إرتحلتم فارتحلوا جميعاً , واذا غشيكم الليل فاجعلوا الرماح كِفّةً ولا تذوقوا النوم الاّ غراراً أو مضمضة (1).

فهل ترك (عليه السلام) جانباً دون ان يوليه إهتمامه ويرشد إلى منافعه ويحذّر من مخاطره ؟ لقد كانت توصياته دروساً ومناهج ينتفع بها النابهون.

ومن وصاياه لقائد من قواد جيش له : يوصيه أولاً بتقوى الله (عزوجل) ويأمره بعدم البدء بالقتال , ويرشده إلى الكيفية التي يتصرف بموجبها قبل الاشتباك فيقول : وسر البَردَين , وغوّر بالناس ورفّه في السير ولا تسر أول الليل فإنّ

ص: 137


1- المصدر السابق 3 : 14 .

الله جعله سكناً .. واذا وقفت حين ينبطح السحر أو حين ينفجر الفجر فسر على بركة الله , فاذا لقيت العدو فقف من أصحابك وسطاً ولا تدنُ من القوم دنوَّ من يريد أن يُنشب الحرب , ولا تباعد منهم تباعد من يهاب الناس , حتى يأتيك أمري (1).

ومن وصاياه التي تكشف عن علوّ همته وصدق إيمانه , وأروع معاني فروسيته , ما طلبه من عسكره قبل لقاء العدو بصفّين : (( لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم .. فاذا كانت ألهزيمة باذن الله فلا تقتلوا مدبراً , ولا تصيبوا معوراً , ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى وإنْ شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم )) (2).

إنّ هذا النَفَس الشريف لا يصدر الاّ عن واثق من عدالة موقفه وسلامة نيته وانتصاره في مجاهدة المارقين الذين وصفهم رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) بالفئة الباغية .

نخلص مما تقدم إلى أنّ أمير المؤمنين قد قدّم للمجاهدين أفضل الخطط الحربية وفق المنظور الإنساني , فهو لم يحارب لتحقيق مكسب شخصي أو منفعة دنيوية بل كان يقاتل الذين يبغون التحكم برقاب الناس .

وصايا الإمام (عليه السلام) في الجانب المدني :

من وصايا أمير المؤمنين لبعض عماله وولاة الاقاليم , وهي تختلف باختلاف المواقف . ومع تلك الإختلافات فإنّها تمثل الأسس التي تنهض

ص: 138


1- المصدر السابق 3 : 15 .
2- المصدر السابق 3 : 16 .

فوقها هياكل الإدارة , وبالإلتزام بها تحفظ الحقوق . إنها دروس لا يعتورها الخطأ ولا يشوبها الإضطراب .

فمن كتاب له (عليه السلام) إلى الأشعث بن قيس يحدد صلاحياته , ويعلمه بأنه مسؤول ممن هو أعلى منه فيقول : (( ... وأنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنه في عنقك أمانة , وأنتمسترعى لمن فوقك , وليس لك أن تفتات في رعيّة ولا تخاطر الاّ بوثيقة , وفي يديك مال من مال الله } وانت من خزّانة حتى تسلّمه اليّ ... (1)

وكان (ع)بالمرصاد لمن يخون الأمانة فيغلظله بالكلام ويتوعده بالعقوبة , فمن كتاب له إلى زياد بن أبيه , جاء فيه : وإني أُقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خنت من فيء شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر .. (2)

وحين يريد إستبدال أحد عماله الخيّرين الملتزمين فلا يحرمه من الثناء وتطييب الخاطر وكشف الأسباب لكي يكون على بيّنة وتطمئن نفسه , ولا يتأخر في إنجاز ما يوكل إليه في مقبل الأيام , ومن ذلك ما كتبه إلى عامله على البحرين .. (( أما بعد , فاني قد وليت نعمان بن عجلان على البحرين ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب ولا مأثوم فلقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام وأحببت أن تشهد معي .. (3)

ص: 139


1- المصدر السابق 3 : 7 .
2- المصدر السابق 3 : 22 .
3- المصدر السابق 3 : 75 .

ولا تنقطع توجيهات أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعليماته إلى بعض عماله , ففي الوقت الذي يرفع من معنويات فلان ويشعره برضاه عن سيرته وجميل فعله يبعث له باقة من توصياته , ومن ذلك قوله : (( أما بعد فانك ممن أستظهرُ به على اقامة الدين , وأقمع به نخوة الأثيم وأسد به لهاة الثغر المخوف , فاستعنْ بالله على ما أهمك واخلط الشدّة بضغثٍ من اللين , وارفق ما كان الرفق أرفق , واعتزم بالشدّة حين لا يُغني عنك الاّ الشدّة , واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآس بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحيّة حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك , والسلام (1).

بهذه التفاصيل الدقيقة المنبعثة من نبع الخبرة والتجربة تُعد التوصيات , ويُشكم العنفوان والغرور , ويتحقق المرجو من دور الوالي في ولايته .

وله (عليه السلام) وقفات رائعة وتوجهات صائبة لعمال الصدقات والمكلفين بجبايتها , إنها لفتات تربوية وتعليمات نافعة ورادعة , يستمدها الإمام (عليه السلام) من شرع الله سبحانه وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله وسلم) وخزين علمه وصادق توجهه للعمل الصالح المثمر . ومما كتبه إلى عماله على الخراج : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج : أما بعد فإنّ مَن لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدّم لنفسه ما يحرزها ... فأنصفوا الناس من انفسكم واصبروا لحوائجهم فإنكم خزّان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة , ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته , ولا تبيعُنَّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً . ولا تضربُنّ أحداً سوطاً لمكان درهم ,

ص: 140


1- المصدر السابق 3 : 84-85 .

ولا تمسُّنَّ مال أحد من الناس مصلٍ ولا معاهد الاّ أن تجدوا فرساً أو سلاحاً يُعدى به على أهل الإسلام ... ولا تدّخروا أنفسكم نصيحة ولا الجند حُسنَ سيرةٍ ولا الرعية معونة ولادين الله قوة وأبلوا في سبيل الله ما استوجب عليكم ... (1)

في النص السابق يتجسد الحرص وحب الخير للناس كافة والإحاطة الدقيقة بظروف العمل , ويعلن عن المعايير الثابتة التي ينبغي أن لا تغيب عن العاملين في هذا الحقل الحيوي . وإنّ القائد العام وولي أمر المسلمين يذكّر دائماً بنهجه , ودستوره كلما سنحت الفرصة إلى ذلك .

مواعظ لأمير المؤمنين علي (ع)

بشهادة حبر الأُمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس , يقول : ما اتعظت بكلام قط إتعاظي بكلام أمير المؤمنين . حين كتب إليه الإمام (عليه السلام) : (( أما بعد : فان المرءَ يسرُّه دَرك ما لم يكن ليفوته , ويسوؤه فوت مالم يكن ليدركه , فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعاً , واجعل همك لما بعد الموت , والسلام (2)

ص: 141


1- المصدر السابق 3 : 90-91 .
2- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 194 .

ومن خطبة وعظية له (عليه السلام) قوله : رحم الله إمرءاً سمع حكما فوعى ودعي إلى رشاد فدنا وأخذ بحجزة هادٍ فنجا , راقبَ ربّه وخاف ذنبه , قدّم خالصاً وعمل صالحاً (1).

وقوله (عليه السلام) : أوصيكم عباد الله بتقوى الله , وأُحذّركم الدنيا فإنها دار شخوص ومحلة تنغيص , ساكنها ظاعن وقاطنها بائن ... (2) .

ومن مواعظه (عليه السلام) قوله : أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل . أيها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط , وإنما عقرَ ناقة ثمود رجلٌ واحد فعمهم الله العذاب لما عمّوه بالرضا .. (3)

وقال (ع)لإبنه الحسن (عليه السلام) : .. إنّ أغنى الغنى العقل وأكبر الفقر الحُمق , وأوحش الوحشة العُجْب وأكرم الحسب حسن الخلق (4) .

وقال (عليه السلام) : لا يرجوَنّ أحدٌ منكم إلاّ ربّه , ولا يخافنّإلاّ ذنبه ولا يستحيَنّ أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم , ولا يستحيَنّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه , وعليكم بالصبر فإنّ الصبر من الأيمان كالرأس من الجسد ...(5)

وقال (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه : لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويرجّي التوبة بطول الأمل , يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل

ص: 142


1- محمد عبده / نهج البلاغة 1 : 122 .
2- المصدر السابق 2 : 195 .
3- المصدر السابق 2 : 207 .
4- المصدر السابق 3 : 160 .
5- المصدر السابق 3 : 168 .

فيها بعمل الراغبين , إنْ أُعطي منها لم يشبع وإنْ مُنع منها لم يقنع .. يحب الصالحين ولا يعمل عملهم , ويبغض المذنبين وهو أحدهم .. إنْ سقم ظل نادماً وان صحَّ أمن لاهياً , إنْ أصابه بلاء دعا مضطراً وإنْ ناله رخاء أعرض معتراً , إنْ عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوّف التوبة , يصف العبرة ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ فهو بالقول مدلٌّ ومن العمل مقلٌ , يستعظم من معصية غيره مما يستقل أكثر منه من نفسه فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن ..(1)

وبعد هذا المختصر من كلامه (عليه السلام) يستحسن النظر إلى وصيته لإبنه الإمام السبط الحسن (عليه السلام) وهي من الطول بحيث إستوعبت ما يقرب من عشرين صفحة من كتاب نهج البلاغة – شرح محمد عبده- وسوف نلتقط من دررها ما يحقق الغرض . قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : ... أصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك , ودع القول فيما لا تعرف والخطاب فيما لم تُكلّف , وامسك عن طريقٍ اذا خفت ضلالته , وأمر بالمعروف تكن من أهله وانكر المنكر بيدك ولسانك , وجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذك في الله لومة لائم ... وعوّد نفسك التصبّر على المكروه .. يا بنيَّ إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب أنْ تُظلم واحسن كما تحب أن يحسن إليك , واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك, وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك , ولا تقل مالا تعلم وإنْ قلّ ما تعلم , ولا تقل ما لاتحبأنْ يقال لك واعلم أن الإعجاب ضد الصواب فاسعَ في كدحك ولا تكن

ص: 143


1- المصدر السابق 3 : 189-190 .

خازناً لغيرك واعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة وانه لا غنى لك فيه عن حسن الإرتياد , وقدّر بلاغك من الزاد مع خفة الظهر ... واذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إياه . وأعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك بالدعاء , وتكفل لك بالإجابة , وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك واعلم يقيناً أنّك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك وأنك في سبيل من كان قبلك , فخفض في الطلب وأجمل في المكسب فليس كل طالب بمرزوق ولا كل مجمل بمحروم , وأكرم نفسك عن كل دنية وإنْ ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا ولا تكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حراً وما خيرُخير لا يُنال الاّ بشر , ويسر لا يُنال الاّ بعسر . وأعلم يا بني أنّ الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك .. ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى , ولا تكونن ممن لا تنفعه العظة الاّ اذا بالغت في إيلامه فإنّ العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ الاّ بالضرب .. من أمن الزمان خانه ومن أعظمه أهانه , إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان . سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار , وأكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير ويدك التي بها تصول...(1)

إنها مدرسة الإمامة , وهي خلاصة الوحي وتوجيه النبي وصورة مصغّرة للحكمة والتربية والتفوّق العلَوي الذي لا يشق له غبار , ولو تيسر لأحد أن يقف وقفة المتأمل الواعي على بعض ثمارها ويحاول الإستنارة بأنوارها والسير على هديها لأحرز عز الدنيا ونعيم الآخرة .

ص: 144


1- المصدر السابق 3 : 44 وما بعدها .

مع عهد الامام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضی الله عنه)

إنّه أطول عهد كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) لوالٍ , وأجمع كتبه للمحاسن على حد قول السيد الشريف الرضي (رضی الله عنه) جامع نهج البلاغة .

والذي أراه هو : إنّ مالك الأشتر لا يحتاج إلى عهد أو وصيّة , وقد قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) : رحم الله مالكاً كان لي كما كنت لرسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) (1) فقد كان للأشتر في العلم الحظ الأوفر والنصيب الأوفى فقهاً وحديثاً , فكان في صف الفقهاء والمحدّثين , كما كان في صف الشعراء

ص: 145


1- عبد الواحد المظفر / قائد القوات العلوية ... ص99 .

والخطباء , وكان مع الجلالة والزعامة ورعاً زاهداً ومتقشفاً ناسكاً .. وله في الحلم والعفو مالا يجهل قدر فضيلته ... ولا تحسب أنّ أمير المؤمنين حين ولاه مصر , هذا القطر العظيم والشعب المهم , لكونه شجاعاً أو ذا نجدة وتجربة فحسب بل إنتخبه مهذباً وانتقاه مثقفاً واختاره واعياً لما أودعه من دقائق الحكم حافظاً لما أوصاه به من شؤون الإدارة والسياسة .(1)فهل مثل هذا النموذج يحتاج إلى مثل هذا العهد ؟

نعم : لقد أراده أمير المؤمنين دستوراً ومنهاج عمل لكل من يتولى الحكم على مدى الحقب المتتالية , ففي هذه الوثيقة سجل الإمام (عليه السلام) سبقاً للأولين والآخرين فأحاط بالمستلزمات , واستوعب الحاجات , ونبّه على الخفايا وحذَّر من السلبيات , وأحيى مشاعر الفضيلة والعلائق الإنسانية والدينية كما أحكم وضع الأنظمة الإدارية والإقتصادية والعسكرية , ولم يغفل عن أي نافعة أو يتجاهل أي وسيلة تفضي إلى توفير الوئام والطعام ونبذ الخصام والتمسك بحبل الله والتعاون على البر والتقوى .

وليس مهماً ذكر نص العهد فهو طويل ومشهور , ويندر أن يكتب أي كاتب سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) دون ان يمر ولو باختصار على مفاصل من هذا العهد الخالد , ويكفينا الوقوف على ما يمكننا إستيعابه والإفادة من إشراقاته . انّه – كما أراه – آية من آيات الحكمة ونفحة من نفحات المدرسة المحمدية وثمرة من ثمار العبقريةالحيدرية . ويبدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) القول ب- : هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر .. فأمره بتقوى الله وإيثار طاعته .. وأن ينصر الله سبحانه

ص: 146


1- المصدر السابق ص3-5 .

بيده وقلبه ولسانه وان يكسر نفسه من الشهوات , ويزعها عن الجمحات . ثم قال : فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح .. واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان :- إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ...

ربما يتراءى للبعض في الوهلة الأولى ان جملة التوصيات التي وردت في النص قد ترد في خطب الخطباء المسلمين بشكل أو بأخر , فاغلبهم يطالب بتقوى الله وهي من ركائز الإيمان . أمّا نصرة الله سبحانه فتكاملها يكون باليد واللسان والقلب . كما أن كبح جماح الشهوات يوصل إلى رضا الله , والعاصم من الإنسياق وراء مغريات الدنيا . وهذه من الأمور العامة المشهورة في خطب الوعظ والإرشاد . أما الذي يرفع وتيرة التفوّق العلَوي والتفرد عن سواه فهو في روعة النبرة التي تحملها عبارة (( وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم )) فإنّ المحبّة تمثل قمة الصفاء الروحي والإنتماءالإنساني ؛ ويتصاعد الإحسان وتسمو الوصيّة بالتصنيف الجامع المانع الذي اختص به أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يسبقه إليه سابق في قوله : فإنهم صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .

وتتوالى التوجيهات التربوية العالية القيمة , المتّصلة مباشرة بارادة الله سبحانه وتعالى , والموشاة بالنصوص القرآنية المعجزة , وتتجلى عظمة النص العلوي الخالد في هذا العهد بتتابع الطلبات والضغط المحبب على القلب والوجدان بالحث على التسامح والصفح عمن ولّي عليهم بقوله (عليه السلام) : فانك فوقهم , ووالي الأمر عليك فوقك , والله فوق من ولاّك .

ص: 147

ويتابع أمير البلاغة والبيان أمير المؤمنين (عليه السلام) توجيهاته بقوله : (( وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق , وأعمها في العدل , وأجمعها لرضا الرعية )) فهل بعد هذه السلّة من الدرر زيادة ؟

ويتحول الإمام أمير المؤمنين إلى منظومة الحُكم ورجال الحل والعقد , فيحدد النافع ويدعو إلى الإنتقاء فيقول : ... لا تدخلنّ في مشورتك بخيل يعدل بك عن الفضل , ولا جباناً يضعفك عن الأمور , ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور . ويطلب (ع)إستبعاد الوزراء الذين كانوا مع الأشرار , ويوصي بالإكثار بمدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت صالح الأعمال . ثم يعدد الإمام (عليه السلام) طبقات الرعية كالجنود والقضاة والكتّاب والعمال , وأهل الذمة والتجار وأهل الصناعات وذوي الحاجة والمسكنة , فيوصي للجميع بالرعاية المادية والمعنوية .

ومن إهتمامه(عليه السلام) بالقضاء فإنّه يقول : ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأُمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ... ثم أستعرض (عليه السلام) جليل صفات القاضي القوي العادل الصابر المحيط بمستلزمات القضاء الناجح .

وفي إختيارالعمال يوصي (عليه السلام) بالخبراء بعيداً عن المحاباة والأثرة , ومع ذلك طلب أن تتبعهم العيون للوقوف على حقيقة أعمالهم والتزامهم بالعدل والأمانة .

وكان (عليه السلام) يؤكد على أمر الخراج لأن الناس كلهم عيال على الخراج واهله ويوصي بإصلاح الأرض الزراعية وعمارتها .

ص: 148

ومن الأُمور المتصلة بسلامة الحكم : الإختيار الأمثل للكتّاب , وهو ما يأمر به أمير المؤمنين بقوله : ثم أنظر في حال كتّابك فولّ على أُمورك خيرهم . ويذكر (عليه السلام) أفضل صفات الكاتب من حيث الإقتدار المهني والإستقامة .

أما إهتمامه(عليه السلام) بالتجّار وذوي الصناعات فيأتي من تأثيرهم المباشر في أقتصاد البلد , والتحكم بحاجات الناس المعاشية خاصة فيحذّر من الطمع والإحتكار .

وكان (عليه السلام) كثير الاهتمام بالفقراء والمحتاجين والمرضى وذوي العاهات فيقول : الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين .

ثم خلص أمير المؤمنين إلى التوجيه المباشر لشخص الوالي خاصة فجاءت عبارات النهي في مواضع كثيرة , منها :

لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا

إياك والدماء وسفكها بغير حلِّها

إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها , وحب الإطراء

إياك والمن على رعيتك بإحسانك

إياك والعجلة بالإمور قبل أوانها

إياك والإستئثار بما ألناس فيه أُسوة

ص: 149

وهكذا بدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) عهده لمالك الأشتر (رضی الله عنه) وهكذا ختم .

لقد حظي هذا العهد بإهتمام وإعجاب واحترام جميع من له حس إنساني ورغبة في سيادة العدل والرحمة , وأمل في أن يكون دستوراً لكل دولة..

ويخرج الكاتب القدير الأستاذ جورج جرداق من هذا العهد بما سمّاه ( الوثيقة العلوية لحقوق الانسان ) ويقارن تلك الوثيقة بما مطروح في أروقة الأمم المتحدة اليوم مما يسمى وثيقة حقوق الإنسان , ويرى من الوثيقة العلوية ما يعلو ويزيد , ولها الأفضلية بأربع نقاط .

1- إنّ الوثيقة الدولية وضعها ألوف من المفكرين ينتمون لمعظم دول الأرض , فيما وضع الدستور العلوي عبقري واحد هو علي بن أبي طالب .

2- إنّ علي بن أبي طالب قد سبق واضعي الوثيقة الدولية ببضعة عشر قرناً .

3- إنّ واضعي الوثيقة الدولية قد ملأوا الدنيا عجيجاً فارغاً حول ما صنعوا وأكثروا من الدعاوة لأنفسهم وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم وحمّلوه ألف منّة .. فيما تواضع إبن أبي طالب للناس ولرب العالمين فلم يستعلِ ولم يستكبر .

4- إنّ معظم الدول المتحدة التي ساهمت في وضع وثيقة حقوق الإنسان واعترفت بها هي التي تسلب الإنسان حقوقه , فينتشر

ص: 150

جنودها في كل ميدان . فيما مزّق إبن أبي طالب صور الإستبدادوالإستئثار حيث حطت له قدم وحيث سمع له قول(1).

إطلالة على كتاب نهج البلاغة

لم يؤلف أمير المؤمنين (عليه السلام) كتاباً بعنوان نهج البلاغة إنما هو المجموع الذي تحقق بجهد الشريف الرضي (رضی الله عنه) .

وفي إستعراض لمصادر ثقافة الإمام (عليه السلام) يقول الكاتب القدير جورج جرداق : ( وعكف على دراسة القرآن دراسة المتبصّر الحكيم الذي ينفذ إلى لباب الأشياء فيعي حقائقها ويستوحيها .. فإذا هو يتقن القرآن نصاً ويحياه جوهراً فيستقيم به لسانه كما يستقيم جنانه , أمّا علمه بالحديث فلا يشق له فيه غبار .. وقد رافق النبي أطول زمنٍ رافقه فيه مجاهدٌ أو صحابيٌ

ص: 151


1- جورج جردق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص162-163 .

فسمع منه ما سمعه الآخرون ومالم يسمعوه . وأحسن الإسلام فقها كما أحسنه عملاً , فإنّ معاصريه لم يعرفوا من هو أفقه منه وأصلح فتوى)(1)

وعن المجموع الذي تكوّن منه الكتاب , يقول جامعه السيد الشريف الرضي (رضی الله عنه) : ( كتاب يحوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه وتشعبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وآداب , علماً أنّ ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربيةوثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لايوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب ) (2) .

واذا تتبعناالأغراض التي أشتمل عليها كتاب نهج البلاغة لوجدناه قد تعرض للمدح وللعذل وللترغيب في الفضائل وللتنفير من الرذائل وللمحاورات السياسية والمخاصمات الجدلية ولبيان حقوق الراعي على الرعية وحقوق الرعية على الراعي , والكلام في أُصول المدنية وقواعد العدالة والنصائح الشخصية والمواعظ العمومية , كما تعدى حدود المألوف في الوصف والإخبار عن المغيّبات لا بعلم الغيب بل بما تعلمه من أخيه رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) وملأ أسماع الدنيا بحكمته وكلماته الوعظية القصار .

والذي يدعو إلى الاستغراب هو أنْ يشكك بعضهم في نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أو يدعي أن بعضه لغيره بشبهات لا تصمد أمام الحقيقة التي كشف عنها فضيلة العلامة الكبير الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه القيّم (( نهج البلاغة لمن ؟ )) ومثله فعل

ص: 152


1- الامام علي صوت العدالة الانسانية ص 71-72 .
2- محمد عبده / نهج البلاغة 1 : 2 من مقدمة الشريف الرضي .

الأديب الاستاذ السيد حسين بستانه استاذ الادب العربي في الثانوية المركزية , وقال في آخر بحثه القيّم : (( إنّ هذه الشكوك ولّدتها وخزات الصدور والبغضاء التي كانت تضمر للشريف (1).

والأشد استغراباً أن يكون بين المشككين أو الرافضين أعلام في الفقه والأدب والتاريخ والتحقيق كالدكتور طه حسين والدكتور أحمد أمين وجورجي زيدان ومحمود محمد شاكر وشفيع السيد وغيرهم , وعلى الرغم من كونهم محسوبين على العلم والمعرفة الاّ أنهم وقعوا تحت طائلة التقليد الأعمى لمن سبقهم من المنحرفين عن عليّ ونهجه كإبن خلكان في وفيات الأعيان والصفدي في الوافي بالوفيات واليافعي في مرآة الجنان وإبن حجر في لسان الميزان . ولم يلتفتوا إلى التقصير الذي جرّهم لمثل هذه الإخفاقات وذلك بعدم التحقيق والتدقيق والتزام كل واحد منهم باختصاصه وتحصيله , فلا يدخل فيما لا علم له به . وظاهر الأمر أنهم وبدوافع مذهبية وتأثر بمدارس غربية وأمور أُخرى أخرجتهم من كوكبة الأحرار في أحكامهم والواثقين من قدراتهم التخصصية كالدكتور زكي نجيب محمود والدكتور زكي مبارك والشيخ محمد عبده وأديب عصره عز الدين بن أبي الحديد المعتزلي في شرحه للنهج بقوله : إنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح ...(2)

ص: 153


1- مجلة الاعتدال النجفية / السنة الخامسة – العدد الرابع ص 195 – 203 .
2- محمد حسين آل ياسين / نهج البلاغة لمن ؟ ص 17-18 .

ويبزغ أخيراً كتاب الأُستاذ الدكتور صباح عباس عنوز (( نهج البلاغة صوت الحقيقة )) دراسة نقدية علمية على ضوء النص النقلي وماهية المنجز الفني , قدّم له العلامة الأُستاذ الدكتور حسن عيسى الحكيم رئيس جامعة الكوفة الأسبق , ومن هذه المقدمة : (( واذا وضع الباحث المنصف حقائق التاريخ نصب عينيه يصل إلى محتويات نهج البلاغة لأن الإمام علياً (عليه السلام) قد عاصر الأحداث زماناً ومكاناً وخاض غمارها , وكان المستهدف الأول في إبعاده عن مقامه الحقيقي , ولا بد له من أن يقول الحقيقة لكي يطلع المجتمع على مجريات الأمور , وهذا مما أعطى نهج البلاغة وخطبة الشقشقية على وجه التحديد الوثائقية المعاصرة للأحداث , ومن ثم كتب الإخباريون والرواة ثم المؤرخون من بعدهم نصوصاً تتفق مع آراء السلطة الحاكمة بعد هيمنة الترهيب والترغيب )) (1).

ويظهر لي إنّ الإنحيازاللاواعي إلى رأي مدرسة الصحابة لدى بعض المحسوبين على العلم باعتقادهم عدم جواز صدور الخطأ من الصحابي إستفزتهم صراحة أمير المؤمنين في خطبته الذائعة الصيت –الشقشقية– وهم يعرفون وبيقين إنّها تصوّر حقيقة ما حصل , وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في غاية الدقة في الوصف والكشف . يقول الشيخ محمد حسن آل ياسين : (( وهل يعتبر ذم الناكثين والقاسطين والطعن في المارقين والمنحرفين منافياً للتقوى او مخالفاً لأحكام الدين ؟ إن أمير المؤمنين يقول الحق وينطق

ص: 154


1- الدكتور صباح عنوز / نهج البلاغة صوت الحقيقة / ص 7-8 .

بالصدق , يمدح من استحق المدح ويذم من استأهل الذم ولا تاخذه في كل ذلك لومة لائم )) (1).

ويأسف المرء حين يجد المحسوبين على الإسلام يحاولون هدم هذا الصرح الفكري العظيم الذي يمثله النهج أبلغ تمثيل بينما يقول المستشرق الفرنسي الشهير هنري كوربان : ( وتأتي أهمية هذا الكتاب في الدرجة الأولى بعد القرآن وأحاديث النبي ليس بالنسبة للحياة الدينية في التشيع عموماً وحسب بل بالنسبة لما في التشيع من فكر فلسفي ... وإنك لتشعر بتأثير هذا الكتاب بصورة جمة من الترابط المنطقي في الكلام ومن إستنتاج النتائج السليمة , وخلق بعض المصطلحات التقنية العربية التي أدخلت على اللغة الأدبية والفلسفة فاضفت عليها غنى وطلاوة وذلك أنها نشأت مستقلة عن تعريب النصوص اليونانية ) (2).

ونصوص كتاب نهج البلاغة لا تقبل المفاضلة فكلها آيات باهرات يتربع القرآن المجيد على صدر مفرداتها , وتعبق معانيه من خلال مراميها العبادية والأخلاقية , وتتجلى عظمة سبكه ونظام رسمه بأخذه من بيادر الحديث النبوي الشريف .

ولكي نجاري ما إعتاد الآخرون على ذكره من نصوص النهج بذكر المختارات من كلماته القصار فهي أثمن موروث تربوي وأغنى حقل معرفي , واروع روضة من رياض الأدب العربي العالي , وليس في مثل هذا التقليد ضير وإن كان بحد ذاته تكرار ولكنه كالتعقيب بعد اداء الفرض ..

ص: 155


1- نهج البلاغة لمن ؟ ص25 – 26 .
2- المصدر السابق ص42 نقلاً من تاريخ الفلسفة الأسلامية لهنري كوربان .

قال (ع): .. فإنّ الغاية أمامكم , وإنّ وراءكم الساعة تحدوكم , تخففوا تلحقوا (1).

قال (عليه السلام) : أزرى بنفسه من استشعر الطمع , ورضي بالذل من كشف عن ضرِّه , وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه (2).

قال (عليه السلام) : أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة (3).

قال (عليه السلام) : لا تستح من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه (4).

قال (عليه السلام) : قيمة كل امرئٍ ما يحُسنه (5).

قال (عليه السلام) : هلك أمرؤ لم يعرف قدره (6).

قال (عليه السلام) : أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله (7).

قال (عليه السلام) : إحذر أن يراك الله عند معصيته (8).

قال (عليه السلام) : إزْهَد في الدنيا يبصِّرك الله عوراتها(9).

والحقيقة إنّ دعوى الإختيار هي أقرب إلى الوهم , فهل في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يمكن إبعاده وإختيار بعضه ؟ ولكن هو من

ص: 156


1- نهج البلاغة / محمد عبدة 1 : 54 .
2- المصدر السابق 3 : 152 .
3- المصدر السابق 3 : 164 .
4- المصدر السابق 3 : 165 .
5- المصدر السابق 3 : 168 .
6- المصدر السابق 3 : 189 .
7- المصدر السابق 3 : 236 .
8- المصدر السابق 3 : 246 .
9- المصدر السابق 3 : 248 .

باب الأقرب إلى التأثير في النفوس القلقة والعقول المغيّبة والإرادات المعطّلة , فلعل في جرسها منبهاً وفي لفظها محفزاً وفي معانيها وازعاً .

ظاهرة الوصف وكشف المجهول – في الخالق والمخلوق – في نهج البلاغة.

من الإنفرادات العلَويّة بروز ظاهرة الوصف في نصوص كتاب نهج البلاغة , واذا وجد بين علماء وأدباء الأُمة العربية وصّاف مبدع فهو من تلامذة الإمام (عليه السلام) أو ممن تأثر بتراثه الخالد .

ومما يُسجل لجامع النهج السيد الشريف الرضي (قدست روحه الطاهرة) بدؤه بكلام أمير المؤمنين الخاص بوصف الذات الإلهية المقدسة بقوله : (( .... كائن لا عن حدث , موجود لا عن عدم , مع كل شيء لا بمقارنة , وغير كل شيء لا بمزايلة , فاعل لا بمعنى الحركات والآلة , بصير

ص: 157

إذ لا منظور إليه من خلقه , متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده..(1)

ويقيناً إنّ هذا الوصف قد نهله الإمام (عليه السلام) من أصدق مصادره , من أُستاذه الأول الرسول الاعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) ومن تدبّره (عليه السلام) للقرآن المجيد , فليس بين البشر من سبقه إلى ذلك .

ثم تحول (عليه السلام) إلى وصف المخلوقات وكيف أن الله تبارك وتعالى فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء فاجرى فيها ماء متلاطماً تياره ..(2)ثم راح الإمام يفصّل الكيفيات التي يتحرك فيها الهواء والماء بين الأرض والسماء التي فتقها فسوى منها سبع سماوات جعل سفلاهن موجاً مكفوفاً – لا يسيل –وعلياهن سقفاً محفوظاً وسمكاً مرفوعاً بغير عمد يدعمها ولا دسار ينظمها ثم زينّها بزينة الكواكب ..(3)

ويصف الإمام (عليه السلام) خلق الإنسان المتمثل بآدم (عليه السلام) فيقول : ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها , وعذبها وسبخها , تربةً سنّها بالماء حتى خلصت , ولاطها بالبلة حتى لزبت , فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وأعضاء وفصول .. ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا .. (4) ثم ذهب (عليه السلام) إلى ألوصف التفصيلي لأجزاء الجسم فقال :

ص: 158


1- نهج البلاغة / محمد عبده 1 : 9 .
2- المصدر السابق 1 : 10 .
3- المصدر السابق 1 : 12 .
4- المصدر السابق 1 : 13-14 .

فمثلت إنساناً ذا أذهان يجليها وفكَر يتصرف بها وجوارح يختدمها وأدوات يقلّبها ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل والأذواق والمشام والألوان ...(1)

وبعد أن يستوفي (عليه السلام) الكلام في وصف الخالق سبحانه وتعالى ووصف الإنسان , يتعرض في بعض كلامه إلى وصف مجموعة من المخلوقات التي يحتاج وصفها إلى دقّة في النظر وبراعة في التأمل ومعرفة تامة بأفعال ومجريات حياة الموصوف . فوصف الملائكة بقوله : .. من ملائكة أسكنْتَهم سماواتك ورفعتهم عن أرضك , هم أعلم خلقك بك , لم يسكنوا الأصلاب ولم يُضمَّنوا الأرحام ولم يُخلقوا من ماء مهين ولم يشعبهم ريب المنون ..(2)

ولو فتّشت تراث الأُمم كافة لما وجدت وصفاً للدنيا جامعاً مانعاً كما وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : ... دار أولها عناء وآخرها فناء , في حلالها حساب وفي حرامها عقاب , من أستغنى فيها فُتن , ومن افتقر فيها حزن , ومن ساعاها فاتته ومن قعد عنها واتته , ومن أبصر بها بصَّرته ومن أبصر اليها أعمته .. (3)ولم يقف عند الذي ذكره هنا من وصف الدنيا وما يتعلق بها بل له جملة من الخطب والكلمات في هذا المنحى مبثوثة في النهج قد ذكرنا بعضاً منها فيما مرّ في مكانه .

ولقد وصف في أحدى خطبه بديع خلقة الخفاش فقال : من لطائف صنعه وعجائب حكمته في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حيّ , وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد

ص: 159


1- نهج البلاغة / محمد عبدة 1 : 14-15 .
2- المصدر السابق 1 : 210 .
3- المصدر السابق 1 : 127 .

من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها , وجاعلة الليل سراجاً تستدل به في التماس أرزاقها .. وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش ولا قصب إلاّ أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما , لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا ولم يغلظا فيثقلا , تطير وولدها لاصق بها لاجئ إليها لا يفارقها حتى تشتد أركانه ويحمله للنهوض جناحه , ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه , فسبحان الباري لكل شيء على مثال خلا من غيره(1).

إنّ مثل هذه التفاصيل لا تصدر الاّ من خبير بعالم الحيوان وجزئيات حياته وصفاته التي لا تتأتى الاّ إلى القاصد المتأني والحاذق البصير بما لم يكن شائعاً أو معروفاً لدى الناس , والاّ لما تكلف الحديث عنه وإعلانه على المنبر ولجموع المستمعين . ومثل ذلك قاله في عجيب خلقة الطاووس : .. ومن أعجبها خلقاً الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل , ونضَّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناح أشرج قصبَه , وذنَب أطال مسحَبه , إذا درج إلى الانثى نشره من طيّه وسما به مظلاًّ على رأسه ... يختال بألوانه , ويميس بزيفانه , يفضي كإفضاء الديكة , ويؤرُّبملاقحةٍ أرَّ الفحول المغتلمة في الضراب ...(2) وأروع ما في الأمر نفي أمير المؤمنين صحة من يزعم إنّ الطاووس يلقح بدمعةتسفحها مدامعه , وإنّ أُنثاه تطعم ذلك ثم تبيض لا من لقاح فحل . إنه الواثق المصيب في أقواله وأحكامه , فمن غيره كان يقول : (( سلوني قبل أن تفقدوني فإني لا أُسأل عن شيء دون العرش الاّ أخبرت عنه ))(3) .

ص: 160


1- المصدر السابق 2 : 61-62 .
2- المصدر السابق 2 : 88 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ص10 .

وكان للحشرات نصيب من إهتمام أمير المؤمنين , ووصف دقائق حياتها ففي وصفه للنملة يقول : أنظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيئتها لا تكاد تُنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر , كيف دبّت على أرضها وصَبَت على رزقها , تنقل الحبة إلى جحرها وتعدّها في مستقرها , تجمع في حرّها لبردها وفي ورودها لصدورها , مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها , لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس , ولو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها , وما في الرأس من عينها واذنها لقضيت من خلقها عجبا ..(1) والعظيم في وصفه (عليه السلام) للنملة ذكر اذنٍ لها وهذا مما يتعذر على الأخرين رؤية ذلك أو اكتشافه مع التدقيق .

وله (عليه السلام) كلام دقيق آخر في وصفه للجرادة حيث يقول : وإنْ شئت قلت في الجرادة , إذ خلق لها عينين حمراوين , وأسرج لها حدقتين قمراوين , وجعل لها السمع الخفي , وفتح لها الفم السوي , وجعل لها الحس القوي , ونابين بهما تقرض , ومنجلين بهما تقبض , يرهبها الزراع في زرعهم ولا يستطيعون ذبّها ولو أَجلبوا بجمعهم حتى ترد الحرث في نزواتها وتقضي منه شهواتها , وخَلْقُها كلُّه لا يكون إصبعاً مستدقة (2).

وهكذا يظهر العلم اللّدني المشفوع بعلوم الوحي ودروس المعلم الأكبر الرسول الأعظم (عليه السلام) الذي يقول : (( علي عيبة علمي )) (3).

ص: 161


1- نهج البلاغة / محمد عبده 2 : 139-140 .
2- المصدر السابق 2 : 141 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث رقم 122 ص 275 .

الإمام علي (عليه السلام) والأخبار المستقبلية

المستقبل , وما يحمله من وقائع وأخبار هو من صميم العلم بالغيب , قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)وعلم الغيب لله وحده , قال تعالى : «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2)ومع هذا , فمن لطفه سبحانه أنه أطلع حبيبه ورسوله محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) على طائفة من المغيبات . قال (عزوجل) : «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ»(3) .

ومن الكرامات التي حظى بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دون المسلمين أنه كان موضع سر الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) : ( عن سلمان الفارسي (رضی الله عنه) قال : قلت يا رسول الله إنّ لكل نبي وصياً فمن وصيّك . فسكت عني فلما كان بعد , رآني فقال : يا سلمان , فأسرعت إليه قلت لبيك , قال :

ص: 162


1- سورة لقمان الآية 34 .
2- سورة الأنعام الآية 59 .
3- سورة آل عمران الآية 44 .

تعلم من وصي موسى ؟ قلت نعم , يوشع بن نون , قال : لمَ ؟ قلت لأنه كان أعلمهم يومئذ , قال : فإنّ وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني , علي بن أبي طالب (1).

ومما يؤكد تلقي أمير المؤمنين (عليه السلام) جميع الأخبار المستقبلية من رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) - وقد أظهر الإمام (عليه السلام) بعضا منها في مناسبات مختلفة وأخبر بعض أصحابه عما يجري لهم في المستقبل , ولم يصادف حصول ما يخالف ذلك – وصفه للتتار , فقال : كأني أراهم قوماً كأن وجوهم المجانّ المطرقة , يلبسون السرق والديباج , ويعتقبون الخيل العتاق , ويكون هناك إستحرارُ قتل حتى يمشي المجروح على المقتول , ويكون المفلت أقل من المأسور . فقال له بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب , فضحك (عليه السلام) وقال للرجل وكان كلبياً : يا أخا كلب , ليس هو بعلم الغيب وإنما هو تعلّم من ذي علم ... علمٌ علمه الله نبيَّه فعلمنيه , ودعالي بأن يعيه صدري ..(2)

وفيما أخبر عن الملاحم بالبصرة وعن صاحب الزنج , قال (عليه السلام) : يا أحنف كأني به قد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام . ثم قال : ويل لسككهم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة ..(3)

ص: 163


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث 132 ص285 ذكره 36 مصدراً .
2- نهج البلاغة / محمد عبدة 2 : 14 .
3- المصدر السابق 2 : 13 .

وقوله (عليه السلام) : يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن الاّ رسمه , ومن الإسلام ألاّإسمه , ومساجدهم يومئذ عامرة من البناء خراب من الهدى , سكانها وعمّارها شرُ أهل الأرض , منهم تخرج الفتنة واليهم تأوي الخطيئة يردّون من شذ عنها فيها ويسوقون من تأخر عنها اليها (1).

إنّ الوقوف على جميع ما صدر عنه (عليه السلام) من اخبار غير ممكن لكونها متفرقة في مطاوي المدونات التاريخية والسير الذاتية , وهذه بعض الأمثلة وإنْ تكرر ذكرها في أكثر من بحث الاّ أنّها تمثل المصاديق الثابتة لمكانة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتبوئه المقام الأول لدى الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله وسلم) .

في فتنة رفع المصاحف في معركة صفّين وكيف أُجبر أمير المؤمنين (عليه السلام) على قبول التحكيم , فوجّه معاوية عمرو بن العاص , ووجّه علي – مكرهاً – أبا موسى الأشعري , وكتبوا كتابين ... واختصموا في تقديم علي (عليه السلام) أو تسميته بإمرة المؤمنين , فتنازعوا على ذلك منازعة شديدة حتى تضاربوا بالأيدي , فقال الأشعث بن قيس – الخارج على الإمام – أمحوا هذا الإسم , فرفض الأشتر بشدّة , فلما اختلفوا قال علي (عليه السلام) الله أكبر قد كتبت رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يوم الحديبية لسهيل بن عمر : فقال سهيل : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك , فمحا رسول الله إسمه بيده وأمرني ... (2) وذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) ما قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : فعن علقمة بن قيس قال لعلي (عليه السلام) : تجعل بينك وبين إبن آكلة الأكباد , قال : إني

ص: 164


1- المصدر السابق 3 : 241 .
2- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 178 .

كنت كاتب رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) يوم الحديبية فكتبت : هذا ماصالح عليه محمد رسول الله , قالوا : لو نعلم أنه رسول الله ما قاتلناه , إمحها قلت : هو والله رسول الله وإنْ رغم أنفك , ولا والله لا أمحوها , فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) أرنيه , فأريته . فمحاها وقال : اما أن لك مثلها وستاتيها وانت مضطر (1).

وفي معركة النهروان كان لأمير المؤمنين أكثر من موقف يخبر فيه عن حوادث سوف تقع , فعن إبن بطة في الإبانة وأبي داود في السنن عن أبي مجلد في خبر , أنّه قال (عليه السلام) في الخوارج مخاطباً لأصحابه : والله لا يقتل منكم عشرة , وفي رواية , ولا ينفلت منهم عشرة ولا يهلك منّا عشرة , فقتل من أصحابه تسعة وانفلت منهم تسعة (2)وحين جاء أحد الفرسان إلى أمير المؤمنين يخبره بأنّ جيش الخوارج قد عبر النهر بقوله : يا أمير المؤمنين قد عبر القوم وقطعوا النهر , فقال (ع)كلا ما عبروا فجاء آخر فقال قد عبر القوم , فقال (ع): كلا ما فعلوا . قال والله ما جئت حتى رأيت الرايات في ذلك الجانب والأثقال , فقال (عليه السلام) : والله ما فعلوا وإنّه لمصرعهم ومراق دمائهم . وفي رواية : لا يبلغون إلى قصر بورى بنت كسرى ؛ فدفعنا إلى الصفوف فوجدنا الرايات والأثقال كما هي , قال فأخذ بقفاي ودفعني ثم قال : يا أخا الأُزد ما تبيّن لك الأمر ؟ فقلت : أجل يا أمير المؤمنين (3) وفي خبر سفيان بن عيينة عن طاووس اليماني إنّه : قال (عليه السلام) لحجر البدري يا حجر , كيف بك أذا أوقفت على منبر صنعاء وأُمرت بسبّي والبراءة مني ؟ قال : قلت أعوذ بالله من ذلك , قال : والله إنّه كائن , فاذا كان ذلك

ص: 165


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى – الحديث 20 ص139 ذكره اثنا عشر مصدراً .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 363 .
3- المصدر السابق 2 : 269 .

فسبّني ولا تتبرأ منّي فإنّه من تبرأ مني في الدنيا برأت منه في الأخرة . قال طاووس : فأخذه الحجاج على أن يسب علياً فصعد المنبر وقال : أيها الناس إنّ أميركم هذا أمرني أن العن علياً ألا فالعنوه لعنه الله (1) وعن الأعمش وإبن محبوب عن الثمالي والسبيعي كلهم عن سويد بن غفلة , وقد ذكره أبو الفرج الاصفهاني في اخبار الحسين , إنّه قيل لأمير المؤمنين عن خالد بن عرفطة قد مات , فقال (عليه السلام) : إنّه لم يمت ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن جمار , فقام رجل من تحت المنبر فقال : يا أمير المؤمنين والله إنّي لك شيعة وإنّي لك لمحب , وأنا حبيب بن جمار , قال : إياك أن تحملها , ولتحملنّها فتدخل بها من هذا الباب , وأومى بيده إلى باب الفيل , فلما كان من أمر الحسين (عليه السلام) ما كان , وتوجّه عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى قتاله , كان خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن جمار صاحب رايته فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل (2).

والشواهد كثيرة وموثقة بالأسانيد والمخبرين المعتمدين من الموالين والمخالفين , فعن عمار بن ياسر(رضی الله عنه) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : ألا أحدثكم باشقى الناس , رجلين : أُحيمر ثمود الذي عقر الناقة , والذي يضربك يا علي على هذا حتى يبل منها هذه (3)وكان أمير المؤمنين على علم بإسمه فعن الصادق (عليه السلام) : إنّ علياً (عليه السلام) أمر أن يُكتب له من يدخل الكوفة فكتب له أناس ورفعت أسماؤهم في صحيفة فقرأها فلما مرّ على إسملإبن ملجم وضع أصبعه على إسمه ثم قال : قاتلك الله قاتلك الله , ولما

ص: 166


1- المصدر السابق 2 : 269 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 270 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ... الحديث 15 ص 128 ذكره 79 مصدراً .

قيل له إذا علمت أنّه يقتلك فلِمَ لا تقتله . فيقول : إنّ الله تعالى لا يعذب العبد حتى تقع منه المعصية , وتارة يقول : فمن يقتلني ؟ (1)

وكذلك أخبر (عليه السلام) بقتل جماعة , منهم : حجر بن عدي , ورُشيد الهجري وكميل بن زياد وميثم التمّار ومحمد بن اكثم وخالد بن مسعود وحبيب بن مظاهر وجويرية وعمرو بن الحمق وغيرهم , ووصف قاتليهم وكيفية قتلهم(2)ومن ذلك ما قاله (عليه السلام) لرُشيد الهجري بان الدعي عبيد الله بن زياد سيحمله على البراءة منه (عليه السلام) وإلاّ فيقطع يديه ورجليه ولسانه ويصلبه على جذع نخله , وما دارت الأيام حتى تولى إبن زياد الكوفة فدعاه وسأله عما أخبره به أمير المؤمنين , قال : أخبرني خليلي أنك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ أبداً فتقطع يدي ورجلي ولساني . قال إبن زياد : لأكذّبنّ قوله , ثم أمر به فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه , وحمل إلى أهله فاجتمع عليه الناس وهو يحدّثهم بما أطلعه أمير المؤمنين من علم المنايا والبلايا , وفضل أهل البيت ثم قال : أيها الناس سلوني إنّ للقوم عندي طلبة لم يقضوها , فأسرع رجل إلى إبن زياد وقال : ما صنعت , قطعت يديه ورجليه وهو يحدّث الناس بالعظائم , فامر به بأن يقطع لسانه , فمات من ليلته , ثم صلب على باب دار عمر بن حريث(3).

وإذا رجعنا إلى أقواله (عليه السلام) في بني أُميّة وما ينتظر الأُمة من أفعالهم في مستقبل الأيام لظهر لنا جلياً دقّة تفاصيل اخباره المستقبلية وحقيقة ما سوف يجري على الناس من جرءة بني أمية على الله وعلى رسوله بما يقترفون من آثام وما يرتكبون من الظلم والقتل غير المبرر وإظهار العداوة للعترة الطاهرة . يقول الامام (عليه السلام) : (( والله لا يزالون حتى لا يدعوا

ص: 167


1- ابن شهر آشوب / المناقب 2 : 271 .
2- المصدر السابق 2 : 271-272 .
3- السيد عبد الرزاق المقرم / مقتل الحسين ص71 عن رجال الكشي ص76 – 77 .

لله محرَّماً إلاّ استحلوه ولا عقداً إلاّ حلّوه حتى لا يبقى بيتُ مدرٍ ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم , ونبا به سوء رعيهم , وحتى يقوم الباكيان يبكيان , باكٍ يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه وحتى تكون نصرةُ احدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده إذا شهد أطاعة وإذا غاب إغتابه , وحتى يكون أعظمكم فيها عناءً أحسنكم بالله ظناً , فإن أتاكم الله بعافية فأقبلوا وإن ابتليتم فاصبروا فإنّ العاقبة للمتقين )) (1).

كما أخبر (ع)عن دور معاوية بن أبي سفيان في مقبل الأيام فقال : أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البعلوممندحق البطن يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه , ولن تقتلوه . ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي , فإما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة , وامّا البراءة فلا تتبرأوا منّي فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة )) (2).

ومضات تربوية عند الإمام علي (ع)

في البدء ينبغي الإشارة إلى أمرين مهمين في حياة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) :

الأول : البيئة التي ولد وترعرع فيها .

الثاني : المؤهلات التي خلقت منه مصدراً تربوياً .

فقد ولد (عليه السلام) في بيت الزعامة بيت سيد البطحاء وزعيم قريش أبي طالب (رضی الله عنه) وامه فاطمة بنت أسد الهاشمية المؤمنة التي لم تسجد

ص: 168


1- نهج البلاغة / محمد عبده 1 : 190-191 .
2- المصدر السابق 1 : 101 .

لصنم . وبعد أن أمضى سني الطفولة الأولى إنتقل مع إبن عمه المصطفى محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) الذي وجد أنّ ثمة من يحبب له إحتضانإبن عمه وحبيب روحه عليّ وهو في الرابعة أو السادسة من عمره فأخذه ليعيش في كنفه , وليحقق أمرين في ذلك , الأول : يكاد يكون غيبياً – وهو كذلك – حتى كان المختار (صلی الله علیه و آله وسلم) لا يفارقه في حلّه وترحاله , وليس له إهتمام بغير تقويمه وتعليمه . والأمر الثاني : الرغبة لدى المصطفى في عكس الصورة الرائعة من الحنان والرعاية التي تلقاها في بيت عمه , على إبن عمه بدافع الوفاء والحب معاً .

وبقي الإمام علي (عليه السلام) حتى استوفى كل ما أراده له رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) من التربية والتعليم , وتلقى جل إن لم يكن كل ماجاء لرسول الله من علوم واخبار عن طريق الوحي الإلهي , ففي الحديث النبوي الشريف قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي : (( إنّ الله أمرني أن أُعلّمكَ وان تعي )) (1) أما إذا نظرنا إلى البيئة الأكبر – مكة المكرمة – فقد كانت محطة التقاء القبائل في مواسم الحج والتعبد للأصنام إلى جانب النشاط التجاري , وشاع في ناسها الصراع الطبقي والتنافس على المال والجاه وامتلاك العبيد والإماء وتفشي ظواهر الربا والمنكر إضافة إلى العادات الملأى بالمتناقضات , بيئة يلفحها السموم وتضرب ألفاقة أغلب سكانها , اما القراءة والكتابة فيندر وجودها , إلاّ أنّ الفصاحة والشعر فكانتا من ألذ موائدها وأفضل صفات أبنائها . ومع كل ذلك كانت مكة تكتنز نواة الإنعتاق وتتهيأ لاحتواء سر الشروق على البشرية الغارقة بالجهالة ... لقد كانت تعيش مخاضاً مباركاً أثمر النور والتحرر الفكري

ص: 169


1- الدكتور حسن عيسى الحكيم / الامام علي روح الاسلام ص73 عن شواهد التنزيل للحسكاني 1 : 106 .

والسلوكي ببعثة رسول الإنسانية الأعظم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله وسلم) ونزول الوحي الالهي بالقرآن المجيد معجزة الإسلام الخالدة .

إنّ ما ذكرناه من مآخذ سلبية في حياة الناس في مكة - والذي يغلب عليها الشرك والوثنية وسوء العلاقات بين الأقوياء والضعفاء وإباحة المحرمات التي نهت عنها رسالات السماء التي سبقت الإسلام- لم تهتد إلى حياة محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ولا إلى حياة إبن عمه عليّ (عليه السلام) , كرامة من الله سبحانه وتعالى , وقد صرح بها القرآن المجيد في آية التطهير.

لقد مثّل أمير المؤمنين (عليه السلام) جوهر الرسالة وجميع صفات الكمال بأعلى مستوياتها على الأرض بعد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) , وكان مؤهلاً للقيادة في جميع مفاصل الحياة , وقد أثرى الواقع الإنساني بأدق برامج التنظيم الإجتماعي وأرسى قواعد وأُسس جملة من العلوم , ونظّر لأفضل مناهج التربية والتعليم . وفي هذا الحقل يبدأ (عليه السلام) بإيضاح أدوات الصنعة , فيؤكد معنى العلم والذي يختصره بقوله : إنّ العلم إنما يقوم بمعرفة هذه النفس أولاً , وإنّ حدود الجهل إنما تبدأ حيث يجهل الإنسان نفسه . فالمعرفة عند علي (عليه السلام) محبّة وحياة وصداقة للوجود . وهنا يلفت النظر إلى حسن إختيار العلوم , وأنْ نرفض العلوم التي ليس فيها الفاعلية من أجل تغير النفس ذاتها وتوجيهها وجهة ألُمثل السامية (1).

ويهتم الإمام (عليه السلام) ببيئة المتعلم فيدعوه إلى رفض سيطرة البيئة الجغرافية والإجتماعية عليه , وان يتكيف تبعاً لمقتضيات ما يتمناه من

ص: 170


1- علي محمد حسين الأديب / منهج التربية عند الإمام علي (ع) ص 46-47 .

الحياة الكريمة , ولا يهمل (عليه السلام) التأكيد على أهمية الطبيعة البشرية والدوافع النفسية والغرائز الفطرية فيقول : إنّ للقلوب شهوة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قِبَل شهوتها وإقبالها فإنّ القلب إذا أُكره عمى (1).

وينبّه (عليه السلام) إلى الإصطراع بين الخير والشر , ويدعو إلى تغليب جانب الحق والنور على جانب الباطل والظلام , على أنّ الطبيعة البشرية بما فيها من حاجات نفسية ليست هي بحد ذاتها خيّرة أو شرّيرة وإنما هي ترغم على السير في طرائق الخير أو طرائق الشر تبعاً للوجهة التي يرغب فيها صاحبها والهدف الذي يطمع الوصول إليه(2).

وأشار الإمام (عليه السلام) إلى أهمية مبدأ الثواب والعقاب الذي أقرّه الله تعالى فجعل الجنّة ثواباً والنار عقاباً , ففي الثواب المعنوي والمادي تشويق وترغيب , وباعث على الإتجاه للخير والإستمرار فيه , أما العقوبة فتعني الإيلام المادي أو المعنوي , والهدف منها العلاج والإصلاح , وأن لا تكون العقوبة غاية بل وسيلة , وأن لا تصل إلى حد الأضرار والقسوة (3).

وفي مضمار التربية الأخلاقية فالدعوة أولاً إلى معرفة الحق والباطل بقوله (عليه السلام) (( إنّ الله لم يأمرك الاّ بحَسَن , ولم ينهك الاّ عن قبيح )) وإن التعامل مع الموروث ينبغي أن يراعى فيه التعبير بمعنى : (( لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأُمة واجتمعت بها الألفة وصلحت بها الرعية))(4).

ص: 171


1- نهج البلاغة / محمد عبده 3 : 197 .
2- علي الأديب / المصدر السابق ص82 -83 .
3- المصدر السابق ص89-90 .
4- المصدر السابق ص150 .

ومن توصياته (عليه السلام) التربوية : أن يكون المعلم القدوة الحسنة في العمل والفكر والقول والتربية (( يمزج الحلم بالعلم والقول بالعمل , الخير منه مأمول , والشر منه مأمون .. )) (1).

وفي مجال العلاقات : أن يتأكد الشخص من حسن إختيار القرناء والأصدقاء بما عُلم من سلوكهم , وظهر من صفات الخير أو الشر في تعاملهم اليومي , فان القرين إلى المقارن ينسب .

ويرى الإمام (عليه السلام) للأُسرة دوراً مهما في عملية التربية والتعليم , فالى جانب توفير مستلزمات الحياة اليومية من غذاء وكساء ودواء للطفل فإنه يسمع ما يخزن في ذاكرته , ويتعلم الكلام ويتأثر بالعقيدة الدينية والعلاقات الأسريّة والتقاليد والعادات السائدة . ومن كل ذلك يكتسب , فاذا طغى الجانب الخيّر كانت النتائج محمودة , والعكس بالعكس . وقد لخّص لنا أمير المؤمنين أثر الأسرة في الحدث بقوله : (( قلب الحدث كالأرض الخالية , ما أُلقي فيها من شيء قبلته )) ويوجّه (عليه السلام) الأب – في الغالب – إلى الأوقات التي ينبغي أن يكون التعليم والتهذيب فيها نافعاً وينسجم مع عمر الناشئ فيقول : أتركه سبعاً – مع الرعاية والتوجيه الضروري – وعلّمه سبعاً – حيث حلول فترةالتقبل والتحصيل – وصاحبه سبعاً – عندما يدرك أبعاد العلاقات الإجتماعية وكيف يتعلم من مدرسة الحياة العامة ..

ولا نريد الاسترسال أكثر , فالموضوع واسع سعة مراحل حياة الفرد , ولكن يستحسن الرجوع إلى بعض كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) القصار , ففيها ما يُغني عن التفاصيل .

ص: 172


1- المصدر السابق ص157 .

قال (عليه السلام) - وفي قوله هذا مبدأ تتحدد بموجبه عملية الاصلاح – من لم يُعنْ على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها واعظ.

وقال : لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل ولا ميراث كالأدب ولا ظهير كالمشاورة .

وقال (عليه السلام) : من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه .

وقال (ع): خذ الحكمة أنّى كانت . وقال (عليه السلام) : إنّ هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحِكَم . وقال (عليه السلام) : إزجر المسيء بثواب المحسن (1).

والحقيقة إنّ كلام أمير المؤمنين مليء بالوعظ والتوعية والتربية والتعليم للكبار والصغار فهو الخبير العالم والمعلم الكامل . قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو : ما وجدت في التاريخ من يستحق كلمة أُستاذ بتمام مفهومها سوى رجل واحد هو علي بن أبي طالب (2) .

الإمام علي (عليه السلام) والدعاء

اشارة

الدعاء ممارسة إنسانية أكدها الإسلام .. والناس يجدون في الأدعية قرباً من الله (عزوجل) ووسيلة تنقلهم من عالم إلى آخر , فتندمج أرواحهم ومشاعرهم في قدس المدعو لحظة المناجاة , وتحس النفوس بالخلاص من وطأة همهّا

ص: 173


1- نهج البلاغة / محمد عبده 3 : 164 , 166 , 167 , 170 , 194 .
2- شبكة معلومات العالمية – الانترنيت -

وقلقها , فتطمئن وترتاح وتشعر بالإقتراب من رَوح الله وغفرانه , فتقوى بعد ضعف وتترجى بعد يأس (1)قال تعالى : «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ»(2) .

ويتفاوت الناس في دعائهم تبعاً لدرجة إيمانهم واعتقادهم بالدعاء وانطلاقاً من قدراتهم على التعبير وطريقة التوسل , وانسجاماً مع الحاجة وعظيم المسألة , ويلجأ أغلب الداعين إلى نصوص منسوبة إلى الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) وإلى أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) . وقد اشتهر بينهم في هذا التعبد الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) , وروي عنه الكثير من الأدعية , وقد جُمع بعضُها في كتاب سمي ب- ( الصحيفة السجادية ) . أما بخصوص أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) (( فاذا دعا الله في تبتله ورجاه للإعتصام به , خفض جناح الذل له وأحسن الثقة به فدعاه دعوة الساخر من دنياه المعتز بآخرته )) (3).

ومن دعاء له (عليه السلام) : ( اللّهم صن وجهي باليسار ولا تبذل جاهي بالإفتقار فأسترزق طالبي رزقك , واستعطف شرار خلقك وأُبتلى بحمد من أعطاني وأُفتن بذم من منعني وأنت من وراء ذلك كلّه وليُّ الإعطاء والمنع(4).

ص: 174


1- مجلة الينابيع – تصدر عن مؤسسة الحكمة الثقافية في النجف الاشرف – العدد 17 مقال لطالب علي الشرقي .
2- سورة البقرة الآية 186 .
3- مجلة الاعتدال – النجف الاشرف – العدد 4 من السنة 5 ص193 .
4- نهج البلاغة / محمد عبده 2 : 245 .

ومن أدعيته وهو سيد البلغاء والمتكلمين قوله : (( اللهّم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك أو أضلَّ في هداك أو أُضام في سلطانك أو أُضطهد والأمر لك (1).

ومن روائع أدعيته التربوية المؤثرة قوله (عليه السلام) : اللّهم إغفرلي ما انت أعلم به منّي فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة , اللّهم إغفرلي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاءً عندي , اللّهم إغفرلي ما تقرّبت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي , اللّهم إغفرلي رمزات الألحاظ , وسقطات الألفاظ وشهوات الجَنان وهفوات اللسان (2).

والاستطراد في هذا المنحى بعيد المدى , وقد جمع المهتمون بهذا اللون من الأدب الجليل الشيء الكثير , فهناك كتب مختصة حرصت على جمع نصوص من أدعية للرسول الكريم (صلی الله علیه و آله وسلم) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) وللأئمة الأطهار من آل لبيت (عليهم السلام) . وأشهرها الإقبال للسيد إبن طاووس , وعدّة الداعي لإبن فهد , ومفتاح الفلاح للبهائي , والمصباح للكفعمي , والصحيفة السجادية للسيد محسن الأمين العاملي , ومفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي , وضياء الصالحين للحاج محمد صالح الجوهرجي , وغيرها.

ويمكن تصنيف جملة من الأدعية حسب أهدافها أو حسب أوقاتها , فلو أخذنا مثلاً كتاب ( مفاتيح الجنان ) للشيخ عباس القمي لوجدنا لأمير المؤمنين (عليه السلام) أدعية صباحية ومنها قوله : ( أصبحت اللّهم معتصماً بذمامك المنيع الذي لا يطاول ولا يحاول , من شر كل غاشم وطارق من

ص: 175


1- المصدر السابق 2 : 223 .
2- المصدر السابق 1 : 123 -124 .

سائر مَن خلقت وما خلقت من خلقك الصامت والناطق ) (1) . ومن دعاء الصباح أيضاً قوله (عليه السلام) : ( اللّهم يا من دلع الصباح بنطق تبلّجه , وسرّح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه , وشعشع ضياء الشمس بنور تأججه , يامن دلَّ على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقاته , وجلَّ عن ملائمة كيفياته , يا مَن قرُب من خطرات الظنون , وبعد عن لحظات العيون , وعلم بما كان قبل أن يكون , يا من أرقدني في مهاد أمنه وامانه , وأيقظني إلى ما منحني به من مننه وإحسانه , وكفَّ أكف السوء عني بيده ولسانه , صلِ اللّهم على الدليل اليك في الليل الأليل, والماسك من اسبابك بحبل الشرف ألأطول .. وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار وافتح اللَّهم لنا مصاريع الصباح بمفاتيح الرحمة والفلاح , وألبسني اللَّهم من أفضل خِلَع الهداية والصلاح ..(2)

أمّا الدعاء العظيم المشهور بدعاء كميل بن زياد , فقد علّمه إياه أمير المؤمنين الإمام علي (ع), ويفضّل أن يدعى به ليلة النصف من شعبان وليلة الجمعة , ويبدا بقوله : ( اللّهم إنيّ أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء , وبقوّتك التي قهرت بها كل شيء , وخضع لها كل شيء وذل لها كل شيء... اللّهم أغفر لي الذنوب التي تهتك العصم , اللّهم إغفرلي الذنوب التي تنزل النقم , اللّهم إغفرلي الذنوب التي تغّير النعم , اللّهم إغفرلي الذنوب التي تحبس الدعاء .. (3)

والنماذج كثيرة وهي قمة في الفصاحة والبلاغة من جانب , وذروة في الأيمان وطاعة الرحمن , ولا تقتصر على الطلب والعفو عن الذنب بل تعددت

ص: 176


1- الحاج محمد صالح الجوهرجي / ضياء الصالحين ص246 .
2- الشيخ عباس القمي / مفاتيح الجنان ص60 .
3- المصدر السابق ص62-63 .

مراميها الأخلاقية والتربوية والعقائدية , ووفرت للداعين الوسيلة التي تقربهم إلى الله , وتضفي عليهم نعمة الطمأنينة النفسية والأمل بنيل عطف الله ورحمته وغفرانه سبحانه وتعالى .

وهذه بعض الفقرات من أدعية شتى لأمير المؤمنين . يقول (عليه السلام) : ( اللّهم أني أعوذ بك من هيجان الحرص , وسَورة الغضب , وغلبة الحسد وضعف الصبر , وقلة القناعة , وشكاسة الخلق , والحاح الشهوة , واتباع الهوى , وإيثار الباطل على الحق .. ) (1)إنه دعاء تربوي أخلاقي محض يريد به (عليه السلام) التنبيه إلى نقاط ضعف الناس عامة والشباب خاصة .

ويعطي (عليه السلام) أهمية لبعض المناسبات المتصلة بالأُمور العبادية ومنها : إعتماد المسلمين في تنظيم مناسباتهم على الأهلّة , فاذا نظر الإمام (عليه السلام) إلى الهلال يتفاءل خيراً ويدعو الله سبحانه بقوله : اللّهم إنّي أسألك خير هذا الشهر ونوره , ونضره وبركته وطهره ورزقه , وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده , وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده , اللّهم أدخله علينا بالأمن والايمان والسلامة والإسلام والبركة والتقوى والتوفيق لما تحب وترضى (2).

ويقول (عليه السلام) في سجدة الشكر : يا من لا يزيده الحاح الملّحين الاّ جوداً وكرماً , يامن له خزائن السماوات والارض , لا تمنعك

ص: 177


1- الحاج علي دخيّل / الإمام أمير المؤمنين (ع) ص135 .
2- المصدر السابق ص 136-137 .

إساءتي من احسانك , أسألك أن تفعل بي ما أنت أهله وأنت أهل الجود والكرم والعفو ...(1)

لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) المعلم الأول بعد الرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) في مدرسة الإسلام بل ومدرسة الإنسانية الممنهجة التي تشتمل على علوم الدين وأخلاقه وأوامره ونواهيه التي تنير الدروب وتهدي إلى أرقى صور الحياة على مر العصور , فلو توجهنا صوب أنواره وتعلمنا من فضائل ألوانه لخرجنا من الدنيا بزاد طيّب وفير , ولأحرزنارضى الله سبحانه . نسأله تعالى أن يحشرنا مع أوليائنا الطاهرين أهل بيت النبي الطيبين , عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم .

الدعاء والعصمة

لم تكن العصمة صفة منفصلة عن رتبة الإمامة , فهي من لوازمها , ولتوضيح ذلك نذهب إلى تحديد معنى العصمة , وهي في الأصل من صفات الأنبياء قاطبة . فالنبي يجب أن يكون معصوماً أي أنه (( منزّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان .. كما يجب أن يكون منزهاً حتى عمّا ينافي المروءة كالتبذل بين الناس وكل عمل يُستهجن فعله عند العرف العام . والدليل على وجوب العصمة : إنّه لوجاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى .. فأمّا أن يجب إتباعه أو لا يجب , فإن وجب إتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى بل أوجبنا ذلك . وهذا

ص: 178


1- المصدر السابق ص138 .

باطل بضرورة الدين والعقل . وإنْ لم يجب إتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً ))(1).

وحين تناولنا موضوع الإمامة بالبحث انتهينا إلى أنّ الإمامة منصب إلهي كالنبوة و (( الإمام هادٍ يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم , وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس . وعلى هذا فالإمامة إستمرار للنبوة , والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه يوجب نصب الإمام بعد الرسول )) (2) وقد ثبت بالتواتر قول رسول لله (صلی الله علیه و آله وسلم) في يوم غدير خم (( من كنت مولاه فعلي مولاه )) .

إنّ بعض المسلمين خالفونا في العصمة سواء في الأنبياء أو الأئمة , وأثارواشبهة التناقض بين العصمة والدعاء , وخاصة عصمة أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وما نقل عنه من أدعية فيها طلب العفو والمغفرة من الله تبارك وتعالى , قالوا : كيف يكون معصوماً ويقول في دعائه : (( اللّهم اغفرلي ما أنت أعلم به منّي فإن عدت فعد لي بالمغفرة .. اللّهم اغفرلي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان )) (3)

وللرد على هذه الشبهة البائسة يقول السيد الميلاني : (( ولا يخفى عدم صحة التمسك بأمثال هذه الأدعية لنفي العصمة ... لأن العصمة مسألة كلامية تبحث في علم الكلام باب صفات وشرائط القادة والهداة إلى الله تعالى وتعيين الحجة على الناس , ولا ربط لها بعوالم الإستغراق في الحب الإلهي ,

ص: 179


1- محمد رضا المظفر / عقائد الإمامية ص54 .
2- المصدر السابق ص 65-66 .
3- نهج البلاغة / محمد عبده 1 : 123-124 .

واستصغار النفس أمامه , فان الإنسان الكامل لمعرفته بعظمة ربّه لا يرى نفسه شيئاً أمامه .. ويرى كل أعماله وأوراده قاصرة عن أداء حقه ؛ إنّ العصمة بمفهومها الكلامي شيء ومقام المناجاة بين العبد وربّه والتذلل له والإعتراف بالتقصير والذنب , شيء آخر (1).

كما لا يستبعد أن يكون مراد الإمام من الترسل في الدعاء بمثل هذه العبارات حث الآخرين على الدعاء والتديّن به , وقد دعاهم الله سبحانه إلى دعائه بقوله تعالى : «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ»(2)فهو القدوة في التصاغر أمام عظمة خالقه , وإنه يجد في الدعاء سبيلاً للتعبير عن شكره على ما أفاض الله عليه من نعم . وحين يقف أمام مالك يوم الجزاء يتجرد (عليه السلام) من منزلته التي وضعه الله فيها , ويدعو بلسان المؤمن الذي يطلب العفو عن التقصير فيما ينبغي أن يتقدم به بين يدي الله , ويرى انّه مهما قرب من الله ورسوله فهو الإنسان الذي لا يسلم من العجز أمام كرم الله وعفوه وغفرانه في أن يكون الأكمل في إظهار التودد والحب الخالص لله رب العالمين .

ولا ضير في ان يتابع المعصوم مفردات واجباته والمندوبات التي تديم النعمة , وتقوي الرابطة بالمعبود , وتربي من يقتدون به ويعتقدون بعصمته التي اكدّها الله تعالى بقوله (عزوجل) : «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(3) وإن كل تلك التخرصات لا تصمد أمام النص القرآني المجيد , وأمام السيرة العلوية التقيّة والمؤيدة بقول رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) (( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ انه لا نبي بعدي )) (4)

.

ص: 180


1- نهج البلاغة / تحقيق السيد هاشم الميلاني ص 184 – 185 هامش 3 .
2- سورة غافر الآية 60 .
3- سورة الأحزاب الآية 33 .
4- الفتلاوي / الكشاف المنتقى .. الحديث 57 ذكره مائتان وأربعة مصادر .

الإمام علي (عليه السلام) والشعر

العرب أمة شاعرة ترى في قول الشعر سلاحاً تشحذ به همم رجالها وتفري به أكباد خصومها . والقبيلة التي ليس بين أبنائها شاعر فهي مثلومة اللسان , وإذا ولد لها شاعر تقيم الأفراح والاحتفالات . وعندما سطع نور الاسلام تصدى له كثير من شعراء الجاهلية فجبههم القرآن الكريم بالذم والتقريع فقال تعالى :«وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)»(1)

أي أنه في الوقت الذي يحمل على شعراء الضلال , يستثني شعراء الإيمان . أما موقف المستشرقين من الشعر الجاهلي واتهامه بالإنتحال فلم يكتب له النجاح فالموروث الشعري الجاهلي حقيقة أقوى من الدعاوى المشبوهة .

إن النصوص الشعرية المبكرة التي قيلت دفاعاً عن الاسلام أو الطعن عليه بما تتصف به من الجزالة والبلاغة وحسن الصنعة وقوة التأثير , دليل على إمتدادها بين الحقبتين , ويقيناً أنّ شعر العصر الإسلامي – صدر الإسلام – لم يكن وليد وقته , وإنّ هناك جملة من الشعراء قد تركوا لنا نصوصاً شعرية متفق على صحة صدورها مثل شعر أبي طالب عم النبي وناصره والذي بكّر في الذود عن النبي ودينه (صلی الله علیه و آله وسلم) . بشعر مشهور , وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم مقابل إبنالزبعرى وضرار بن الخطاب الفهري وهبيرة بن أبي وهب المخزومي وغيرهم .

ص: 181


1- سورة الشعراء الآية 224 , 225 , 226 .

ويكثر شعر الفخر والرثاء في أعقاب الحروب في القتلى من المسلمين والمشركين كل يرثي قتلاه ويطعن في الخصوم ويفخر بأمجاد أبطاله , وقد يقول الشعر من لا عهد له بالشعر فاغلب الناس من الرجال والنساء يملكون القدرة على قوله ولا يشترط أن يكون من الطبقة الممتازة انما هو تعبير بلغة الشعر الموزون والمقّفى وبالأراجيز .

واذا وقفنا عند أول معركة كبرى بين المسلمين والمشركين في بدر وتابعنا ما قيل من الشعر في الجانبين , نجد شعراً منسوباً إلى حمزة بن عبد المطلب عم النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) على سبيل المثال , ومنه :

وكنّا طلبنا العِير لم نبغ غيرها *** فساروا الينا فالتقينا على قدر

ونحن تركنا عتبة الغيّ ثاوياً *** وشيبة في القتلى تجرجم في الجفر

وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم *** فشقّت جيّوب النائحات على عمرو

وردَّ عليه الحارث بن هشام بن المغيرة :

ألا يالقومي للصبابة والهجر *** وللحزن منّي والحرارة في الصدر

وللدمع من عيني جواداً كأنه *** فريدٌ هوى من سلك ناظمه يجري

على البطل الحلو الشمائل اذ ثوى *** رهين مقام للركيّة من بدر

وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم بدر :

ألم ترَ أن الله أبلى رسوله ***

بما أنزل الكفّار دار مذلّةٍ ***

تبيت عيون النائحات عليهم ***

نوائح تنعى عتبة الغي وابنه ***

بلاء عزيز ذي اقتدار وذي فضل

فلاقوا هواناً من أسارٍ ومن قتل

تجود بإسبال الرَّشاش وبالوبل

وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل(1)

ص: 182


1- ابن هشام / السيرة النبوية 3 : 10-12 .

نوائح تنعى عتبة الغي وابنه *** وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل(1)

ومن النساء هند بنت عتبة بن ربيعة تبكي أباها يوم بدر

أعينيَّ جودا بدمع سَربْ *** على خير خندف لم ينقلب

تداعى له رهطه غدوةً *** بنو هاشم وبنو المطّلب

يذيقونه حدّ أسيافهم *** يعُلّونه بعد ما قد عطب

والشعر في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن غائباً , وإنّه يقول الشعر. واذا قورن شعره بشعر الصحابة فهو المتفوّق.

فالجاحظ في البيان والتبيين وفي كتاب فضائل بني هاشم , والبلاذري في أنساب الأشراف قالا : إنّ علياً أشعر الصحابة(2).

وأورد الشريف الرضي لأمير المؤمنين (عليه السلام) شعراً في قضية الخلافة الأولى , فبعد قوله (عليه السلام) : واعجباه , أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة ؟ قال :

فإن كنتَ بالشورى ملكت امورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وأن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبّي وأقرب(3)

وذكر له نصر بن مزاحم المنقري قصيدة , هذه بعض أبياتها :

يا عجباً لقد سمعت منكرا *** كذباً على الله يشيب الشعرا

ص: 183


1- ابن هشام / السيرة النبوية 3 : 10-12 .
2- ابن شهر آشوب / مناقب آل ابي طالب 2 : 48-49 .
3- نهج البلاغة / محمد عبده 3 : 195-196 .

يسترق السمع ويغشى البصرا *** ما كان يرضى أحمدٌ لو خُبّرا

أن يقرنوا وصيّه والأبترا *** شاني الرسول واللعين الأخزرا

كلاهما في جنده قد عسكرا *** قد باع هذا دينه فأفجرا

من ذا بدنيا بيعه قد خسرا *** بملك مصر إنْ أصاب الظفرا

إني إذا الموت دنا أو حضرا *** شمّرت ثوبي ودعوت قنبرا

قدّم لوائي لا تؤخر حذرا *** لن يدفع الحذارُ ما قد قُدّرا

لما رأيت الموت موتاً أحمرا *** عبّأت همدان وعبّوا حميرا

لا تحسبني يابن حرب غمرا *** وسل بنا بدراً معاً وخيبرا(1)

ولأمير المؤمنين (عليه السلام) أراجيز يبدأ بها أو يرد على راجز من خصومة فلما وصله قول عمرو بن العاص :

لا تحسبني يا علي غافلا *** لأوردنَّ الكوفة القنابلا

بجمعي العامَ وجمعي قابلا

فقال علي :

لأوردنَّ العاصي بن العاصي *** سبعين الفاً عاقدي النواصي

مستحقبين حَلقَ الدِّلاص *** قد جنبوا الخيل مع القلاص

أُسود غيل حين لا مناص(2)

وكتب عليٌّ إلى معاوية :

ص: 184


1- وقعة صفين 1 : 43 .
2- المصدر السابق 3 : 136 .

أصبحت منّيياابن حرب جاهلا *** إنْ لم نُرامِ منكم الكواهلا

بالحقِّ والحقُّ يزيل الباطلا *** هذا لك العامَ وعامَ القابلا(1)

ولما نزل معاوية بصفّين قال عليٌّ (عليه السلام) .

لقد أتاكم كاشراً عن نابه *** يهمّطالناس على اعتزابه

فليأتنا الدهر بما أتى به

وكتب إلى معاوية :

فإنَّ للحرب عُراماً شررا *** إنّ عليها قائداً عَشَنزَرا

يُنصف من أحجر أو تنمّرا *** على نَواحيها مِزَجّاً زَمجَرا

إذا ونَين ساعة تغَشمرا(2)

وذكر المنقري لأمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بيتين من الشعر قالهما بعد قصيدة لأبي زبيد الطائي يمدح علياً , فقال الإمام (عليه السلام) :

أنا الذي سمتني أُمّي حيدرة *** رئبال آجام كريه المنظرة

عبل الذراعين شديد القسورة *** أكيلهم بالصاع كيل السندرة

ص: 185


1- المصدر السابق 3 : 137 .
2- المصدر السابق 3 : 159 – 160 .

إلاّ أنّ الطبري يذكر لعلي أمير المؤمنين رجَزاً بنفس الوزن والقافية قاله راداً على رجَز لمرحب صاحب حصن خيبر الذي يقول :

قد علمت خيبر أني مرحبُ *** شاكي السلاح بطل مجرّبُ

أطعن أحياناً وحيناً أضرب *** إذا الليوث أقبلت تلهّب

فقال علي (ع)

أنا الذي سمتني أُمّي حيدرة *** أكيلكم بالسيف كيل السندرة

ليث بغابات شديد قسورة(1)

ومن شعره التحريضي على القتال في صفين قوله وهو يقود عشرة إلى إثني عشر الفا :

دبّوا دبيب النحل لا تقوتوا *** وأصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر او تموتوا *** أولا فإني طالما عُصيت

قد قلتم لو جئتنا فجيتُ *** ليس لكم ما شئتم وشيت

بل ما يريد المحييُ ألمميت (2)

ومن أراجيز أبي الحسن الإمام علي (عليه السلام) :

إنّي عليٌ فاسألوا لتخُبَروا *** ثم ابرزوا إلى الوغى أو أدبروا

ص: 186


1- الطبري / تاريخ الطبري 3 : 13 .
2- المنقري / وقعة صفين 6 : 403 .

سيفي حسامٌ وسناني أزهر *** منّا النبّي الطيب المطهرُ

وحمزة الخير ومنّا جعفر *** له جناح في الجنان أخضر

ذا أسد الله وفيه مفخرُ *** هذا وهذا وابن هند مجُحرُ

مذبذب مطرَّدٌ مؤخرُ(1)

ومع علو كعب الإمام (عليه السلام) في فنون الأدب والشعر خاصة كان يستشهد بابيات من شعر غيره حين يرى فيها ما يحقق غرضاً أو يختصر موقفاً . فقد تمثل بقول الأعشى ( الأعشى الكبير أعشى قيس , ميمون بن قيس بن جندل ) ففي ترسله (عليه السلام) في خطبته الشقشقية ووصوله إلى قوله : ... فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسليبه فأدلى بها إلى فلان بعده :

شتّان ما يومي على كورها *** ويوم حيّان أخي جابر

وحين علم بغلبة بسربن أرطاة على عامله على اليمن قال (عليه السلام) : ماهي الاّ الكوفة أقبضها وابسطها , إنْ لم تكوني الاّ انت تهبُ أعاصيرك , فقبّحك الله . وتمثل بقول الشاعر :

لَعمرُ أبيك الخير يا عمرو إنني *** على وضر من ذا الإناء قليل(2)

وختم خطبته بقوله : لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم

ص: 187


1- المصدر السابق 7 : 461 .
2- نهج البلاغة / محمد عبده 1 : 60 .

هنالك لو دعوت أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحميم(1)

وخطب (عليه السلام) بعد التحكيم فقال : .. وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمرى فأبيتم عليَّ إباء المخالفين .. ثم أستشهد بقول أخي هوازن :

امرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا النصح الاّ ضحى الغد(2)

ومن إستشهاداته ما جاء في كتابه إلى معاوية جواباً قال فيه : ... فإني إنْ أزرك فذلك جدير أن يكون الله إنما بعثني اليك للنقمة منك , وإن تزرني فكما قال أخو بني أسد :

مستقبلين رياح الصيف تضربهم *** بحاصب بين أغوار وجلمود(3)

وتوخياً للإختصار نكتفي بالنماذج والأمثلة التي ذكرناها , علماً بأن لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ديوان شعر مطبوع فيه الكثير من الشعر الوعظي والتربوي والعقائدي وأغراض اخرى , والذي يستحق التنويه عنه : إنّ بعض اهل الفن من الشعراء والنقاد والأدباء والكتاب يجمعون على أن ليس جميع ما في الديوان من شعر هو لأمير المؤمنين (عليه السلام) ويذهب بعضهم إلى دعوى الوضع والإضافة . ومع ذلك فإنه أمير البلاغة والبيان , والخطيب الفذ , وهو أقدر المتحكمين بالنثر ولكنه مقل في الشعر .

ص: 188


1- المصدر السابق 1 : 61 .
2- المصدر السابق 1 : 82 .
3- نهج البلاغة / محمد عبده 3 : 135 .

على هامة التاريخ

تحت هذا العنوان لخّص الكاتب الكبير جورج جرداق بعضاً من سيرة الامام عليّ (عليه السلام) , بصريح رأيه , وما ينطوي عليه وجدانه كانسان متجرد لا تربطه بالإمام علائق دين أو طائفة , لكنّها رابطة الإنسانية , وقول الصدق والحقيقة , فبدأ واصفاً الإمام بقوله : (( ما هو من الآدميين إلاّ بمقدار ما يسمون بمقياس الضمير والوجدان )) ثم أستخدم لازمتين : ( هل ) و ( هلاّ ) يكررهما كلما يبدأ بعرض لوحة من سفر حياة أمير المؤمنين وآثاره , فيقول :

هلاّ أعرت دنياك أُذناً صاغية فتخبرك بما كان من أمر عظيم ما أعطيت الدنيا أن تحدّثك عن مثله في جيل بين عشرات من الأجيال ؟

هلاّ أعرت دنياك أُذناً وقلباً وعقلاً فتلقي إلى كيانك جميعاً بخبر عبقري حملت منه في وجدانها قصة الضمير العملاق , يعلو ويعلو حتى لتهون عليه الدنيا ؟

هلاّ ضربت بعينيك حيث شئت من تاريخ هذا الشرق سائلاً عن فكر هو من منطق الخير نقطة الدائرة ؟

ص: 189

هلاّ سألت التاريخ عن ذكاءٍ غريب أورث صاحبه الشقاء , والناس منه في نعيم ... ذكاء العالم الذي أوتي من المواهب ما جعل علمه متصلاً بكل علم جاء بعده في هذا الشرق بل أصلاً له ؟

هل عرفت العقل الجبار يقرّر منذ بضعة عشر قرناً الحقيقة الإجتماعية الكبرى التي تضع حداً لأوهام لها ألف مصدر ومصدر , فيعلن : إنّه ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غني ؛ وما رأيت نعمة موفورة الاّ والى جانبها حق مضيع .

هل عرفت عظيماً دلّه عقله الجبار منذ بضعة عشر قرناً على اكتشاف سر الانسانية الصحيح , فاذا سرُّها متصل إتصالاً عميقاً بالشعب الذي لم يكن حكام زمانه وملوكه ليقيموا له وزناً ؟

هل عرفت عظيماً ساق إلى مدارك الناس حقيقة كانت أساساً لفلسفات إيجابية وأخرى سلبية , وأعني بها البحث عن المطلق للاستقرار..؟

هل سألت تاريخ هذا الشرق عن صلابة العقيدة لا تجرحها الزلازل ولا يشوبها من البراكين وهنٌ ؟

هل طلبت إلى الدنيا أن تناجيك بحديث الرحمة , تنطق من قلب ملأته الرحمة ومن لسان تجري عليه برداً وسلاماً ؟

هل عرفت عظيماً أدرك من أسباب المحبة والوفاء فوق ما ادركه الآخرون ثم ما أدرك هذه المحبة وهذا الوفاء الاّ في نطاق الطبع الخالص الذي يجري بنفسه من نفسه ؟

ص: 190

هل سألت عن حاكم يحذّر نفسه ان يأكل خبزاً فيشبع في مواطن يكثر فيها من لا عهد لهم بشبع ؟ وأَنْ يلبس ثوباً ناعماً وفي أبناء الشعب من يرتدي أخشن اللباس ؟

هل عرفت من الخلق اميراً على زمانه ومكانه يطحن لنفسه فيأكل ما يطحن خبزاً يابساً يكسره على ركبته , ويرقع خفّه بيديه ؟

هل عرفت في مواطن العدالة عظيماً ما كان إلاّ على حق ولو تألب عليه الخلق ؟

هل سألت التاريخ عن محارب شجاع فائق الشجاعة بلغ به حبّه لصفة الانسان في مقاتلته , ويبلغ عطفه عليهم أن يوصي أصحابه فيقول : لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم , فاذا كانت الهزيمة بأذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النساء بأذى ... وحين يُمنع وجيشه الماء , إحتلّه ثم يدعوهم إلى الماء أُسوة بنفسه ويقول : ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعف .

هل عرفت من الخلق أميراً توافرت له أسباب السلطان والثروة . فاذا هو منها جميعاً في شقاء , وتوافرت لديه محاسن الحسب الشريف فيقول : لا حسب كالتواضع.

هل سألت تاريخ هذا الشرق عن نهج للبلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتصل بالذوق الفني الرفيع , مترابط بآياته متساوق , متفجر بالحس المشبوب والادراك البعيد , متدفق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق الى معرفة ما وراء هذا الواقع , متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال

ص: 191

الإخراج حتى ليندمج التعبير بالمدلول أو الشكل بالمعنى إندماج الحرارة بالنار والضوء بالشمس ... حتى قال أحدهم في صاحبه : (( إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق )) .

وماذا عليك يا دنيا لو حشدت فأعطيت في كل زمن علياً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقار !

وبهذا الطرح الموجز , وبالوقوف على جملة من مزايا وصفات سيرة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أسدى الكاتب القدير جورج جرداق معروفاً لكثير من الباحثين بوضع أيديهم على بعض مفاتيح أبواب الولوج إلى عالم السدة العلوية المعظمة , والأغتراف من نميرها العذب .

ولو إصطحبنا بعضاً من الصبر والرغبة في معايشة الأحداث التي مرّت في حياة أمير المؤمنين ومسيرته النادرة , لتعرفنا على عالم من الدروس والعبر , ولأكتشفناأَنموذجاً حارَ في وصفه الواصفون , وعجز عن سبر غور معاناته الباحثون . (( عظيم العظماء , نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً ))(1).

ولو نظرنا في مدونات السلف على اختلاف معتقداتهم واتجاهاتم لوجدنا إجماعاً مطلقا لا يعتوره شذوذ أو عناد , يشيد بدور عليّ (عليه السلام) في مسيرة الإسلام وانتصاراته في أحلك الظروف وأخطرها , بدءاً بمعركة – التجربة الأولى – بدر ومروراً بامتحان أُحد , وشدة حملة الأحزاب في معركة

ص: 192


1- جورج جرداق / الامام علي صوت العدالة الانسانية ص19 .

الخندق , والمواجهة الشرسة من لدن يهود المدينة وحصون خيبر , حتى الثبات الأسطوري في معركة حنين بعد هزيمة المسلمين العامّة ..

لقد كان (عليه السلام) بمستوى المسؤولية التاريخية والمؤهل لحمل راية الحق راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) في جميع غزواته ومواجهاته العسكرية , والقائد المنتصر في جميع الحملات والصدامات الصعبة .

وبسبب تصدره لهذه المهام والقضاء على رؤوس الشرك , وتثبيت دعائم الإسلام لم يحرز رضى الأبناء .ولم يتخلص من بغضهم المعلن ولكنه كان محروساً بحب النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) .

وتجذّر ذلك البغض في نفوس كثيرة , وكان سبباً مضافاً في إبعاده (عليه السلام) عن موقع القيادة بعد انتقال الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) إلى الرفيق الأعلى .

وهنا يظهر المعدن الاصيل والايمان الصادق يوم رجّح أمير المؤمنين مصلحة الإسلام والمسلمين على حق شخصي كان في الصبر عليه صلاح للأمة ورضىلله تبارك وتعالى , وبدلاً من إعلان الخصومة واثارة المشاكل كان (عليه السلام) حلاّلا للمشاكل وملجأ لقادة الدولة حين تتأزم الأُمور أو يستعصي حل بعض القضايا القضائية أو العقائدية .

واجتهد المتنفذون في وضع العراقيل في طريق وصول الإمام (عليه السلام) لمنصب الخلافة وقيادة الدولة . وحين حكمت الظروف , أجمعت الجماهير الغاضبة على حكومة الخليفة عثمان بن عفان ثم إغتياله , على أن يتولى أمير المؤمنين (عليه السلام) المسؤولية , فتولاها مرغماً , ومع ذلك لم تهدأ نفوس الحاقدين حتى حّولوا حياة الناس إلى حروب متعاقبة ومعاناة مريرة

ص: 193

لم تترك له (عليه السلام) فرصة الإتصال والتواصل مع سيرة رسول (صلی الله علیه و آله وسلم) , ولكن : بما يمتلك من الإقتدار العالي إستطاع أن يرسم معالم طريق الهداية إلى الحق , وأن يؤسس لنظام ودستور نادر المثيل بتفاصيله ودقة إحاطته بحاجات الناس , وإنْ لم ياخذ طريقه إلى ألتنفيذ الفعلي الكامل ولكنه بقي خالداً يرجع إليه محبو العدل وحقوق الإنسان ..

واخيراً أقول : ستبقى شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ظاهرة تمثل قمة الهرم الإيماني والجهادي والأخلاقي , ولم تفارق هذه المنزلة ألبتة , ولم تزاحمها – ولو بطريق الصدفة –أي شخصية سواء من العالم القديم أو من العالم المعاصر الذي تصلنا أخباره . إنّه المجسد الأمثل لقول الله تبارك وتعالى : «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(1)يقول السيد الطباطبائي : أي إشتمال التقويم في جميع شؤونه وجهات وجوده (2). وهو ما ينطبق إنطباقاً تاماً على سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

ص: 194


1- سورة التين الآية 4 .
2- الميزان في تفسير القرآن 20 : 365 .

الشهادة والخلود

الشهادة عند علي بن ابي طالب (عليه السلام) فوزٌ , وهو أول من أعلن ذلك بقوله : (( فزت ورب الكعبة ))

قالها لحظة ضرَبَه الشقي الضال عبد الرحمن بن ملجم , وكان الإمام (عليه السلام) ينتظرها منذ نزل بها قول الله تبارك وتعالى : «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا»(1) واكدها رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) , فعن عمار بن ياسر (رضی الله عنه) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) : ألا أُحدثكم بأشقى الناس , رجلين , أُحيمر ثمود الذي عقر الناقة , والذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه )) (2)فصدق الله وصدق رسوله وتحقق للإمام حلمه بالشهادة في يوم 21 رمضان سنة 40 ه- . (( ومات الإمام علي شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم وإلى قوم ليس بقومهم في زمن ليس بزمنهم )) كما يقول الأديب الكبير والكاتب القدير جبران خليل جبران (3).

ص: 195


1- سورة الأحزاب الآية 23 ( قال أمير المؤمنين (ع)) : هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمي حمزة وفي إبن عمي عبيدة بن الحارث بن المطلب , فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر , وحمزة قضى نحبه شهيداً يوم أُحد , وأما أنا فانتظر أشقاها يخضب هذه من هذه , وأشار بيده إلى لحيته ورأسه , عهد عهده إليَّ حبيبي أبو القاسم (صلی الله علیه و آله وسلم) . انظر الفتلاوي / الكشاف المنتقى ص 63-64 .
2- المصدر السابق الحديث رقم 15 ص 128 ذكره 79 مصدراً .
3- جورج جرداق / الإمام علي صوت العدالة الانسانية ص 355 .

إنّ الحديث عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) حديث يمتزج فيه الفرح بالحزن . فالفرح يغمر نفوس الخيّرين من أبناء الإنسانية بأن يكون منهم إنسان تجسدت في سيرته أدق معاني الكمال , أما الحزن فانه بسبب فعل أناس ينسبون إلى أقدس شريعة وأعظم دين – الإسلام الخالد – ويُقدِمون على قتل أفضل من يمثل الإسلام روحاً ونهجاً وتطبيقاً , وبهذا الفعل الجبان خسرت الإنسانية قائداً فذاً متفرداً في أعلى مواصفات العدالة والإستقامة , وعالماً متوحداً في مخزونه العلمي وقدراته الشخصية العظيمة .

إن إغتيال الإمام أمير المؤمنين علي (ع)إغتياللمستقبل المسلمين وازهاق لروح الفضيلة والعدل وإفشاء للتشرذم والتفرق والاختلاف . أما الإمام علي نفسه فقد تربّع فوق هامة الخلود في الدنيا والآخرة فخلود الدنيا متحقق بمدرسته ومنبره وكتابه وبمرقده الذي يمثل أُعجوبة المعمار ومحجة الزوار , ومفخرة الموالين من شيعته ومحبيّه من مختلف الأجناس في العالم , المرقد الذي نهضت به مدينة النجف الاشرف مدينة الحوزة الكبرى التي اضطلعت بنشر فكر أهل البيت (عليهم السلام) وعلوم الشريعة الإسلامية المقدسة .

أما الخلود في الآخرة فقد شهد به فيض من الأحاديث النبوية الشريفة فعن أنس بن مالك عن النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) قال : علي بن أبي طالب يزهر في الجنّة ككوكب الصبح لأهل الأرض (1)ومنها قوله (صلی الله علیه و آله وسلم) لعلي (عليه السلام) أنت أخي في الدنيا والآخرة (2)فهل ثمة خلود أعظم من ذلك ؟

سيدي أمير المؤمنين :

ص: 196


1- الفتلاوي / الكشاف المنتقى .. الحديث 121 ص274 ذكره 22 مصدراً .
2- المصدر السابق الحديث 52 ص181 ذكره 94 مصدراً .

بعد أن تعطرنا بشذى عالمك الباهر ونهجك الزاهر تعود بنا الذكرى إلى ألمصاب الذي أفقد الدنيا صوابها وأقامها ولم يقعدها , فسلام عليك في كل حين , لقد فقدتك الإنسانية جسداً وربحتك نبراساً وتجربة .

قال تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1)وهذا هو ميثاق الخلود في دار البقاء .

الإمام علي (عليه السلام) في سطور

إسمه : علي

أبوه : أبو طالب ( عبد مناف )

أُمّه : فاطمة بنت أسد بن هاشم

جدّه : عبد المطلب بن هاشم

أُخوته : طالب , عقيل , جعفر

أخواته : أم هاني , جمانه

ولادته : ولد في يوم الجمعة في ثالث عشر من شهر رجب في الكعبة بعد مولد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) بثلاثين سنة .

صفته : كان (عليه السلام) ربع القامة , زج الحاجبين , دعج العينين , أنجل , وهو إلى السمرة أقرب , أصلع , له خفاف من خلفه كأنه اكليل , وهو أرقب , ضخم البطن , أقرى الظهر , عريض الصدر محض المتن ,

ص: 197


1- سورة البقرة الآية 82 .

شثن الكفّين , ضخم الكسور لا يبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا , عبل الذراعين , عريض المنكبين , له لحية قد زانت صدره , غليظ العضلات , خمش الساقين.

أشهر زوجاته : فاطمة الزهراء (عليها السلام) , خولة بنت جعفر الخثعمية , أم حبيب بنت ربيعة , أم البنين بنت حزام بن خالد بن دارم , ليلى بنت مسعود , اسماء بنت عميس , أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي .

أولاده : الحسن , الحسين , محمد , عمر , العباس , جعفر , عثمان , عبد الله , يحيى , محمد الأصغر المكنّى بأبي بكر , عبيد الله .

بناته : زينب الكبرى , أم كلثوم , رقيّة , أُم الحسن , رملة , نفيسة زينب الصغرى , رقية الصغرى , أم هاني , أم الكرام , جمانه ( أم جعفر ) أمامة , أم سلمة , ميمونة , خديجة , فاطمة .

كناه : أبو الحسن , أبو الحسين , أبو السبطين , أبو الريحانتين , أبو تراب .

القابه : أمير المؤمنين , المرتضى , الوصي , حيدره , يعسوب المؤمنين , يعسوب الدين .

بيعته : بويع له بالخلافة في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة في غدير خم بأمر الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) واستلم الحكم في ذي الحجة في السنة الخامسة والثلاثين .

عاصمته : الكوفة

ص: 198

شاعره : النجاشي , الأعور الشني

نقش خاتمه : الله الملك وعلي عبده

حروبه : الجمل , صفّين , النهروان

رايته : راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم)

آثاره : نهج البلاغة

بوّابه : سلمان الفارسي

كاتبه : عبد الله بن أبي رافع

شهادته : في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40 هجرية

قبره : في الغري – في النجف الأشرف من العراق - (1).

ص: 199


1- انظر : علي محمد علي دخيّل / سلسلة شهرية في الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) / 1 الإمام أمير المؤمنين (ع) صفحة 57-62 .

الكنوز الشعرية في السيرة العلَويّة

خمسة عشر قرناً زاخرة بأروع ما أنتجته قرائح الشعراء في السيرة العلوية المطهرة , وبمختلف اللغات , فهل يتيسر لأي باحث الوقوف على ما حوته الدواوين والمجاميع المخطوطة والمطبوعة ؟ إنه ضرب من المستحيل , ولكن : هناك من يتصدى لحقل محدد أكثر فيه الشعراء من عطائهم فيسجل ما امكنه الحصول عليه كالشعر المنسوب ليوم الغدير , ومثله شعر المديح والرثاء وما يتصل بشخصية أمير المؤمنين وسيرته العطرة في شتى الحقول والمناسبات .

واذا اعتقد بعض الباحثين أنّ في الشعر ترفاً أدبياً أو مادة للترويح يلجأ إليه الكاتب ليسد بنصوصه ثغرة أو يزيد في البحث لوناً وعطراً فان الشعر في عليّ (عليه السلام) عِبَرٌ وتاريخ وقيم وايمان وجهاد وسمو في المبدأ والأخلاق والانسانية .

ص: 200

من هذا التصوّر نجد أنّ إعادة كتابة مختارات من الشعر المنشور خلال القرون المتعاقبة , بروحه ورتبته وشهرته وتأثيره النفسي والوجداني والعقائدي أمر متمم لمحتوى البحث ومقاصده ونتائجه , ولكن : لا نريد هنا العمل على إخراج موسوعة للعلويات في الشعر . بل نريد أن نحيي روضة زاهرة معطّرة بشذى ذكر الإمام المرتضى (عليه السلام) والتأكيد على ما يوثق المواقف النادرة والمناسبات التاريخية في حياة الإمام عبر عمره الشريف الممتد لتلك القرون والى يومنا هذا .. والذي ينبغي الاشارة إليه هو : إنّ الكم هائلٌ والزمنَ الذي ملأه الشعراء بشعرهم ليس بالقصير إنه محسوب بالقرون , وعليه ورغبة في الإستشهادبروائع المنظوم الذي يحقق الهدف سوف نختار ما نعتقد أنه الأجود ما امكننا ذلك وبغض النظر عن التسلسل التاريخي للنصوص المختارة – أحياناً –

ففيما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ببدر قال أسيد بن أبي أياس يحرّض مشركي قريش عليه :

في كل مجمع غاية أخزاكمُ *** جذع أبر على المذاكيالقرّح

هذا ابن فاطمة الذي أفناكم *** ذبحاً وقتلاً قعصة لم يذبح

أين الكهول وأين كل دعامة *** في المعضلات وأين زين الأبطح(1)

وفي قتل عمرو بن عبد ود العامري في معركة الخندق , أنشد حسان بن ثابت شعراً , فردّ عليه فتى من بني عامر :

بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغا *** بكف عليّ نلتم ذاك فاقصروا

ص: 201


1- الشيخ المفيد / الارشاد ص56 .

ولم تقتلوا عمرو بن عبد ببأسكم *** ولكنه الكفو الهزبر الغضنفر

علي الذي في الفخر طال بناؤه *** و لا تكثروا الدعوى علينا فتحقروا (1)

وعن حديث الراية في فتح حصون خيبر يقول حسان بن ثابت شاعر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم)

وكان علي أرمد العين يبتغي *** دواءً فلما لم يحس مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة *** فبورك مرقياً وبورك راقيا

وقال سأعطي الراية اليوم صارماً *** كمياً محباً للإله مواليا

يحب الهي والاله يحبّه *** به يفتح الله الحصون الأوابيا

فاصفى بها دون البرية كلها *** علياً وسماه الوزير الموافيا(2)

وفي يوم الغدير – غدير خم – جاء حسان بن ثابت الأنصاري إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) فقال : أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه الله ؟ فقال له : قل يا حسان على أسم الله , فقال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم *** بخمٍ وأسمع بالرسول مناديا

وقال فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا

الهك مولانا وانت ولينا *** ولن تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم ياعلي فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهم والِ وليّه *** وكن للذي عادى عليا معاديا(3)

ص: 202


1- المصدر السابق ص73 .
2- المصدر السابق ص49 .
3- المصدر السابق ص120 .

ومن قصيدة لشاعر النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) حسان بن ثابت الأنصاري يشيد فيها بدفاع علي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الأنصار الذين إعتزلوا بيعة أبي بكر , هذه الأبيات :

جزا الله خيراً والجزاء بكفه *** أبا حسن عنّا ومن كأبي حسن

سبقت قريشاً بالذي انت أهله *** فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش أعزّة *** مكانك هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كل منزل *** بمنزلة الطرف البطين من الرسن

وكنت المرجى من لؤي بن غالب *** لما كان منه والذي بعد لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده *** إليك ومن أولى به منك مَن ومَن

ألست أخاه في الإخا ووصيه *** وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن(1)

وعندما غدر معاوية بن أبي سفيان بصاحبه عمرو بن العاص ولم ينفذ العهد الذي أبرمه معه باعطائه مصر نحلة , هجاه عمرو بقصيدة لاذعة ومن خلالها افصح عن الحقيقة بقوله :

نصرناك من جهلنا يابن هند *** على النبأ الأعظم الأفضل

وحيث رفعناك فوق الرؤوس *** نزلنا إلى أسفل الأسفل

وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصصة في علي

وفي يوم خم رقى منبراً *** يُبلّغ والركب لم يرحل

وفي كفّه كفّه معلنا *** ينادي بأمر العزيز العلي

ألست بكم منكم في النفوس *** بأولى ؟ فقالوا : بلى فافعل

فانحله إمرة المؤمنين *** من الله مستخلف المنحل

ص: 203


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي 2 : 118 .

ومنها أيضاً :

وإنّا وما كان من فعلنا *** لفي النار في الدرك الأسفل

وما دمُ عثمان منج لنا *** من الله في الموقف المخجل

وان علياً غداً خصمناً *** ويعتز بالله والمرسل

فما عذرنا يوم كشف الغطا *** لك الويل منه غداً ثم لي(1)

وبعد أن نفذ المجرم إبن ملجم فعلته الغادرة قال الشاعر بكر بن حسان الباهلي :

قل لابن ملجم والأقدار غالبة *** هدمت ويلك للإسلام أركانا

قتلت أفضل من يمشي على قدم *** وأول الناس إسلاماً وإيماناً

وأعلم الناس بالقرآن ثم بما *** سنّ الرسول لنا شرعاً وتبيانا

صهر النبي ومولانا وناصره *** أضحت مناقبه نوراً وبرهانا

وكان منه على رغم الحسود له *** مكان هارون من موسى بن عمرانا(2)

ومن الشعراء المعروفين بمدح أمير المؤمنين (عليه السلام) الشاعر السيد إسماعيل الحميري , وهذه بعض الأبيات في ذكرى يوم الغدير :

لذلك ما أختاره ربّه *** لخير الأنام وصيّا ظهيرا

فقام بخمٍ بحيث الغدير *** وحط الرحال وعاف المسيرا

فقال وفي كفه حيدر *** يليح إليه مبيناً مشيرا

ألا أنّ من أنا مولى له *** فمولاه هذا قضاً لن يجورا

فهل أنا بلَّغت ؟ قالوا نعم *** فقال أشهدوا غيّباً أو حضورا

ص: 204


1- الشيخ عبد الحسين الأميني / الغدير 2 : 114 – 115 .
2- المصدر السابق 1 : 326-327 .

أحبّك يا ثاني المصطفى *** ومن أشهد الناس فيه الغديرا(1)

وقد تجاوز عدد الشعراء الذين كتبوا او أنشدوا لأمير المؤمنين حدَّ الإحصاء وكان من بينهم أعلى الشعراء رتبة في العلم والأدب والمنزلة , وخاصة في القرون الخمسة الأولى من الهجرة النبوية الشريفة أمثال : الكميت , أبو تمام , قيس بن سعد بن عبادة , دعبل بن علي الخزاعي , الحماني الكوفي , أبو الطيب المتنبي , أبو فراس الحمداني , الشريف المرتضى , الشريف الرضي , الحسين بن الحجاج , الصاحب بن عباد , مهيار الديلمي , الصولي النيلي وامثالهم . ومن ذلك ما ينسب لأبي الطيب المتنبي :

رضيت بان القى القيامة قانصاً *** دماء نفوس حاربتك جسومها

أبا حسن إنْ كان حبك مُدخلي *** جحيماً فان الفوز عندي جحيمها

وكيف يخاف النار من بات مؤمناً *** بانك مولاه وأنت قسيمها(2)

ومن فضائل السيد الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي جمعه كتاب نهج البلاغة , وهو الغني عن التعريف , فتصدى جملة من العلماء والأُدباء لشرحه وبيان مضامينه وكشف كنوزه , ومن الطبيعي أن تتفاوت تلك الشروح في الجودة والسعة والاحاطة , وكان لعبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي التفوّق في هذا المضمار لاسيما وهو الملم باللغة والنقد الأدبي والتاريخ والعقائد والسيَر , فكان شرحه للنهج قدوة , والإستفادة منه كبيرة . أما ولاؤه لأمير المؤمنين (عليه السلام) فتجيب عنه قصائده السبع العلويات

ص: 205


1- المصدر السابق 1 : 341 .
2- السيد محسن الاميني / أعيان الشيعة 2 : 515 .

المشهورة , وهذه بعض الأبيات المنتخبة من بعض تلك القصائد . فمن قصيدة يذكر فيها فتح حصون خيبر :

ألم تخبر الأخبار في فتح خيبر *** ففيها لذي اللب الملب أعاجيب

وفوز عليّ بالعلى فوزُها به *** فكل ألى كل مضاف ومنسوب

حصون حصان الفرج حيث تبّرجت *** وما كل ممتط الجزارة مركوب

فلما أراد الله فض ختامها *** وكل عزيز غالبَ الله مغلوب

رماها بجيش يملأ الأرض فوقه *** رواق من النصر الإلهي مضروب

علي أمير المؤمنين زعيمه *** وقائده نسر المفازة والذيب

فصب عليه منه سوط بلّية *** على كل مصبوب الإساءة مصبوب

فغادرها بعد الأنيس وللصدى *** بأرجائها ترجيع لحن وتطريب(1)

ومن قصيدته التي يذكر فيها فتح مكة , يقول إبن أبي حديد :

رقيت بأسمى غارب أحدقت به *** ملائك يتلون الكتاب المسطّرا

بغارب خير المرسلين وأشرف الأنام *** وأزكى ناعل وطأ الثرى

فيا رتبة لو شئت ان تلمس السها *** بها لم يكن مارمته متعذرا

صدمت قريشاً والرماح شواجر *** فقطّعت من أرحامها ما تشجّرا

فلولا أناة في ابن عمك جعجعت *** بعضبك أجرى من دم القوم أبحرا

ولكن سِرّ الله شُطّر فيكما *** فكنت لتسطو ثم كان ليغفرا(2)

وفي وصفه لأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول :

هو النبأ المكنون والجوهر ألذي *** تجسد من نورٍ من القدس زاهر

ص: 206


1- صاحب المدارك / القصائد السبع العلويات ص 3 , 4 .
2- المصدر السابق ص 17 .

وذو المعجزات الواضحات أقلّها *** الظهور على مستودعات السرائر

ووارث علم المصطفى وشقيقه *** أخاً ونظيراً في العلى والأواصر

هو الآية العظمى ومستنبط الهدى *** وحيرة أرباب النهى والبصائر

تعاليت عن مدح فابلغُ خاطب *** بمدحك بين الناس أقصر قاصر

اذا طاف قوم في المشاعر والصفا *** فقبرك رُكنَي طائفاً ومُشاعري(1)

ويصفه أيضاً في قصيدة رائعة أخرى , فيقول :

يا برق إن جئت الغري فقل له *** أتراك تعلم من بأرضك مودع

فيك الإمام المرتضى فيك الوصي *** المجتبى فيك البطين الأنزع

الضارب الهام المقنّع في الوغى *** بالخوف للبهم الكماة يُقنّع

والحبر يصدع بالمواعظ خاشعاً *** حتى تكاد لها القلوب تصدّع

هذا ضمير العالم الموجود عن *** عدم وسر وجوده المستودع

يا من له ردّت ذكاء ولم يفز *** بنظيرها من قبل الاّ يوشع

يا قالع الباب الذي عن هزّه *** عجزت أكفّ أربعون وأربع(2)

وختم أبن أبي الحديد علوياته السبع بهذه الخريدة الفريدة بقوله :

عج بالغري على ضريح حوله *** نادٍ لأملاك السماء ومحفل

فمسبّح ومقدسٌ وممجدٌ *** ومعظّم ومكبّر ومهلل

والثم ثراه المسك طيباً واستلم *** عيدانه قبلاً فهن المندَل

وانظر إلى الدعوات تسعد عنده *** وجنود وحي الله كيف تنزّل

والنور يلمع والنواظر شُخّصٌ *** واللسن خرس والبصائر ذهّل

واغضض وغضّ فثم سرٌ أعجم *** دَقّت معانيه وأمر مشكل

ص: 207


1- المصدر السابق ص32 .
2- المصدر السابق ص42 – 43 .

وقل السلام عليك يا مولى الورى *** نصاً به نطق الكتاب المُنزل

يا أيها النبأ العظيم فمهتدٍ *** في حبّه وغواة قوم ضلل

إن كان دين محمد فيه الهدى *** حقاً فحبك بابه والمدخل(1)

ويذكر السيد محسن الأمين العاملي أبياتاً للعلامة خواجة نصير الدين الطوسي يمدح بها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) :

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً *** وزارَ كلَّ نبيّ مرسل وولي

وصام ما صام صواماً بلا مللٍ *** وقام ما قام قواماً بلا كسل

وحج ما حج من فرضٍ ومن سننٍ *** وطاف بالبيت حافٍ غير منتعل

يكسوا اليتامى من الديباج كلهم *** ويطعم الجائعين البر بالعسل

وعاش ما عاش آلافاً مؤلفةً *** عارٍ من الذنب معصوماً من الزلل

فليس ذلك يوم البعث ينفعه *** إلاّ بحب أمير المؤمنين علي(2)

ويبقى جبل عامل – لبنان – معقلاً بارزاً من معاقل الولاء للعترة الطاهرة وحاضنة عامرة بالأفذاذ من العلماء والشعراء منهم – على سبيل المثال – الشيخ شمس الدين محمد الحياني العاملي , ومن شعره في مدح أمير المؤمنين القصيدة الرائية المطولة ومطلعها :

سرى طيف من أهوى فزاد التفكّر *** وأرّق أجفاني وقلَّ التصبّر

ومنها هذه الأبيات المنتخبة :

وحث مطايا الحزم والعزم قاصداً *** إلى حضرةٍ فيها الخطايا تُكفّرُ

ص: 208


1- المصدر السابق ص54 – 55 .
2- أعيان الشيعة 9 : 419 .

إلى حضرة أضحى بها العلم ثاوياً *** وتربتها مسك شميم وعنبر

إلى حضرة كوفية نجفيّة *** حماها غري والغري معطر

وقف وقفة العبد المطيع تأدباً *** وقل معلناً بالصوت الله أكبر

لدى القبة البيضاء فهي حصينة *** مقدّسة فيها الوقار موقّر

ففيها وصي أريحي مؤيد *** وليّ مليّ أنورٌ متنوّر

إمام همام عالم عادل فتىً *** حكيم شجاع هادم الشرك قسور

ثمال اليتامى والمساكين كنزهم *** ومطعمهم قوتا على النفس يؤثر

وقد طلّق الدنيا ثلاث ولم يرد *** زخارفها اللاتي تغر وتمكر

علي علا أعلى العلا والعُلا علت *** به وكذاك المجد بالمجد يفخر(1)

وهذا العالم الأديب الشيخ إبراهيم بن الشيخ يحيى العاملي يمدح أمير المؤمنين (عليه السلام) فيقول :

سلام به تغدو الصبا وتروح *** ويعبق في ذاك الحمى ويفوح

لسقيك يا وادي السلام مجلجل *** من الغيث محلول النطاق دلوح

وحسبك يا ربع الهوى من مدامعي *** غبوق اذا ضن الحيا وصبوح

فقد خط في مغناك للمجد والعلا *** ضريح له قلب الولي ضريح

ضريح ثوى فيه الوصي وآدم *** أبو الناس والشيخ المطهر نوح

أميري أمير المؤمنين وجنتي *** إذا صدّ عنّي مشفق ونصيح(2)

وللشام حصة في توثيق الحق وتشخيص أصحابه متجسّداً في قصيدة الشاعر السوري –الطرسوسي– محمد مجذوب التي خاطب بها معاوية بن أبي سفيان . وهذه بعض أبياتها المنتقاة :

ص: 209


1- موسوعة شعراء الغدير 1 : 180-183 .
2- المصدر السابق 2 : 11-12 .

أين القصور أبا يزيد ولهوها *** والصافنات وزهوها والسؤددُ

أين الدهاء نحرت عزته على *** أعتاب دنيا سحرها لا ينفد

آثرت فانيها على الحق الذي *** هو لو علمت على الزمان مخلّد

تلك البهارج قد مضت لسبيلها *** وبقيت وحدك عبرة تتجدد

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه *** لأسال مدمعك المصير الأسود

كتل من الترب المهين بخربة *** سكر الذباب بها فراح يعربد

أرأيت عاقبة الجموح ونزوة *** اودى بلبك غيّها المترصد

أغرتك بالدنيا فرحت تشنها *** حرباً على الحق الصراح وتوقد

تعدو بها ظلماً على مَن حبّه *** دينٌ وبغضته الشقاء السرمد

علم الهدى وإمام كل مطهر *** ومثابة العلم الذي لا يجحد

ورثت شمائله براءة أحمد *** فيكاد من برديه يشرق أحمد

أأبا يزيد وساء ذلك عترةً *** ماذا أقول وباب سمعك موصد

قم وارمق النجف الشريف بنظرة *** يرتد طرفك وهو باكٍ أرمد

تلك العظام أعزّ ربك قدرها *** فتكاد لولا خوف ربك تعبد(1)

ويُعد الشيخ صالح التميمي من نوادر شعراء السلطان داود باشا وخلفهِ علي رضا باشا , وعُرف بفضله وعلمه وأدبه وإحاطتهبانساب العرب , وهو خريج الجامعة النجفية في عهد آية الله العلامة السيد محمد مهدي بحر العلوم . وله في مدح أمير المؤمنين هذه الأبيات المختارة من قصيدته التي يقول في مطلعها :

غاية المدح في علاك ابتداء *** ليت شعري ما تصنع الشعراء

ص: 210


1- محمد علي الموسوي الحمامي / المطالعات في مختلف المؤلفات 3 : 527-529 .

ومنها :

ما نرى ما استطال الاّ تناهى *** ومعاليك مالهّن انتهاء

فلك دائر إذا غاب جزءٌ *** من نواحيه أشرقت أجزاء

يا سراطاً إلى الهدى مستقيماً *** وبه جاء للصدور شفاء

بني الدين فاستقام ولولا *** ضرب ماضيك ما استقام البناء

أنت للحق سلّمٌ ما لراقٍ *** يتأتى بغيره الأرتقاء

ومنها أيضاً :

لم تلدْ هاشمية هاشمياً *** كعلي وكلهم نجباء

وضعته ببطن أول بيتٍ *** ذاك بيت بفخره الإكتفاء

لا فتى في الأنام الاّ علي *** وكذا السيف عمّه استثناء

إنما المصطفى مدينة علم *** بابها انت والورى شهداء

أنت فصل الخطاب حتى القضايا *** علمٌ فيك تقتدي العلماء

وفصيح كل الأنام لديه *** بعد طه فصيحهم فأفاء

ليس إلاّك للفصاحة نهج *** وعلى النهج تسلك البلغاء

أيها الراكب المهجر يحدو *** يعملاتمامسهاالإنضاء

يمم الركب للغري ففيه *** بحر جود وروضة غنّاء

والتثم تربه وقل يا غياثي *** ورجائي إن خاب مني الرجاء

أن أتتكم هدية مثل قدري *** فبمقداركم سيأتي الجزاء(1)

ولم يكن حب أمير المؤمنين (عليه السلام) حكراً على طائفة أو دين , بل يجد فيه المنصفون وسيلة للقرب من الله ورسوله , واتصالاً بالقيم العليا

ص: 211


1- موسوعة شعراء الغدير 2 : 85-90 .

التي دعا إليها الإسلام العظيم فهذا حسين بن علي العبيدي الأعظمي يطرح ولاءه وحبّه لأمير المؤمنين (عليه السلام) بطريقته التي تجعله وسطاً بين مخزونه العقائدي وميله الصادق للحق , فيقول :

ولدت في الكعبة الغراء مزدهراً *** متوّجاً بجمال الروح والصور

وعشت في خير بيت قد سما شرفاً *** بكل أزهر من أبنائه الغرر

ولدت من خير أمٍ في العلا وأبٍ *** من أشرف العرب العرباء من مضر

قالوا فتى كرّم الرحمن غرته *** عن السجود لأرباب من الحجر

وأسبق الناس اسلاماً وتلبية *** لدعوة الحق من وحي ومن خبر

وأشجع القوم لا يخشى الردى أبداً *** وأعلم الصحب بالقرآن والأثر

وأخطب الناس والآثار شاهدة *** في نهجه الخالد الوضاح في العصر

فقلت ما هذه الأوصاف جامعة *** وغير كاشفة عن مجده النضر

إن الصفات التي قد تنعتون بها *** مظاهر قد خلت من كل مستتر

اذا أردنا انكشاف الحق ساطعة *** أنوارهُ فهو بين الآي والسور(1)

أما الشاعر المبدع المغرم بالعترة الطاهرة وبعلي أمير المؤمنين خاصة هو صاحب القصائد الغر الناطقات بالحقيقة الشاعر عبد الباقي العمري . وهذه أبيات مختارة من شعره في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) :

أنت العلي الذي فوق العلا رُفعا *** ببطن مكة وسط البيت إذْ وضعا

وأنت ذاك البطين الممتلئ حِكماً *** معشارها فلك الافلاك ما وسعا

وأنت نقطة باء مع توحدها *** بها جميع الذي في الذكر قد جُمعا

وأنت أنت الذي حُطت له قدمٌ *** في موضع يده الرحمن قد وضعا

بذي فقارك عنّا أي فاقرة *** قصمتها ودفعت السوء فاندفعا

ص: 212


1- موسوعة شعراء الغدير 3 : 246 – 247 .

لله درَّ فتى الفتيان منك فتى *** ضرع الفواطم في مهد الهدى رضعا

ما فرّق الله شيئاً في خليقته *** من الفضائل الاّ عندك اجتمعا(1)

ومن مدائحه في إمام المتقين علي بن أبي طالب (ع)يقول العمري :

بنا من بنات الماء للكوفة الغرّا *** سبوح سرت ليلاً فسبحان من أسرى

تَمد جناحاً من قوادمه الصبا *** تروم بأكناف الغري لها وكرا

نؤمّ ضريحاً ما الضراح وان علا *** بأرفع منه لا وساكنه قدرا

حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى *** علي الذرى بل زوج فاطمة الزهرا(2)

أما رائعة العمري التي تقوم لها القصائد الفرائد إكبارً وافتخارً فهي اللامية التي خص بها قبة مرقد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) , وهذه بعض أبياتها المنتخبة :

قبّة المرتضى علي تعالى *** شأنها عن موازن وعديل

من نضار صيغت بغير نظير *** في مثال منزّه عن مثيل

فوقها كالاكليل لاح هلال *** رمقته السها بطرف كليل

جللت مرقدا جليلا تجلت *** فوقه هيبة المليك الجليل

فعلى قبة السماء إذا ما *** فضلوها أقول بالتفضيل

هي باء مقلوبة فوق تلك ال- *** -نقطة المستحيلة التأويل

هي فلك بل ما عليه استوى ال- *** -فلك ومن فوق لوحه من قبيل

هي كهف النجاة طور المناجا *** ة ثمال العفاة مأوى الدخيل

هي ظل ما ضل من قال يوماً *** بحماها من تحت ظلّ ظليل

هي غمد لذي فقار بطين *** من سيوف الله العلي صقيل

ص: 213


1- الترياق الفاروقي – ديوان عبد الباقي العمري ص96-99 .
2- المصدر السابق ص100 .

هي غاب ثوى به أسد الله *** عليٌ بصدر أشرف غيل

يا خليليَّ والخليل ألمواسي *** منكما من يحب نفع الخليل

عللاني بذكر من حلَّ فيها *** إنّ قلبي يطيب بالتعليل

نعته بالزبور جاء وبالفر *** قان بل بالتوراة والانجيل

الإمام المبين أحصى به الله *** جميع الأشياء في التنزيل

فهو اللوح بل وماخط في اللو *** ح لديه مقيّد التسجيل

سل سبيلاً لسلسبيل عليٍ *** فعلى ابن السبيل قصد السبيل

هو ساقي الحوض الذي ليس يظمأ *** من حبته يداه بالتنويل(1)

والحلّة الفيحاء قلعة من قلاع الولاء عبر القرون ومربعاً للعلموالأدب فمنها المحقق والعلاّمة وصفي الدين والجناجي والقزويني , وخيرة خطباء المنبر الحسيني كالسيد حيدر والسيد صالح واضرابهما , وللشعر منزلة مرموقة فيها لاسيما اذا كان في مدح أو رثاء العترة الطاهرة . فهذا السيد صالح الحلي يقول في جدّه :

أبا حسنٍ ليس كيف وحد *** يحدد ذاتك الاّ الأحد

ويا شامخاً لم تصفك العقول *** وليس لذلك ند وضد

تحير بك الفطن الغائصات *** ولم يحص فضلك حد وعد

ويا قالع الباب من خيبر *** عجبت لبابك قسراً يُسد

ألست المكسر أوثانها *** وقاتل شجعانها في أُحد

فيا عجباً كيف يجري القضاء *** وكيف تقود ((يد الله)) يد

جميع الشهود له بخبخت *** وانكره كل من قد شهد(2)

ص: 214


1- المصدر السابق ص103-105 .
2- موسوعة شعراء الغدير 3 : 308 .

ومن شعر السيد عباس بن السيد محمد شبّر هذه الأبيات المختارة من قصيدته التي قالها بمناسبة ميلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) :

نفس الفجر أم نيسم الخزامى *** أم هو اللطف يبعث الإلهاما

عظمت ليلة من الدهر جاءت *** بعليٍّ لتنعش الإسلاما

رجب الفرد جئت بالعلم الفرد *** تبذ الافراد والأعلاما

بيضت أوجه الليالي لياليك *** وسادت أيامك الأياما

مولد المرتضى ومبعث طه *** ألبساك الإجلال والإعظاما(1)

ومن حُسنِ الصدف أن تجد بين المبدعين من الشعراء الموالين لأمير المؤمنين شاعراً تتلمذ لنفسه ولم يتلق تعليماً وتثقيفاً في رحاب مدرسة او على يد معلم , فقد كافح أمّيتَه بنفسه طفلاً ومارس الشعر يافعاً دونما مرشد أو دليل يبصّره بمسالك فنّه ... إنه الشاعر عبد الحميد السنيد , من مواليد بلدة سوق الشيوخ من محافظة الناصرية . قال يمدح الإمام (عليه السلام) :

يا باكر الروض تسكاب الحيا الهطل *** فأصبح الورد محمراً من الخجل

وطافت الطير في أفنانها مرحاً *** ما بين شادٍ وغرّيد ومرتجل

وعانق النخل فيه البان يلثمه *** وامطر الآس خد الورد بالقبل

والغيد بين المجالي أسفرت فغدت *** تصطاد البابنا بالغنج والكحل

ومنها قوله :

إني محضت ولائي للذي نطق *** القرآن في مدحه والنص فيه جلى

سر الإله إمام الخلق قائدهم *** إلى السعادة عنوان الرشاد علي

ص: 215


1- المصدر السابق 3 : 392 .

لقد حباه إله الكون منزلة *** من الكرامات ما تربو على زحل(1)

ويحتل شاعر (( الأدب الجديد )) السيد محمد جمال الهاشمي موقعه المتميّز بين شعراء الغدير بقصيدته العصماء . وهذه بعض أبياتها :

انشريه على الزمان لواءا *** واخطري في ظلاله خيلاءا

وتباهي بذكره فهو فجر *** يغمر الدهر روعة وبهاءا

وأعيديه للولاية عيداً *** يملأ الكون بهجة وهناءا

إنه مولد الحقيقة , والحقُ *** عقيم لم يعرف الأبناءا

هو عيد الوجود أضفى عليه *** لطفَه اللهُ رحمة وأفاءا

ليس يُهدى تاجالولاية إلاّ *** لجبينٍ يزيده لألاءا

لحياة ما دُنّستبأثام *** لوجود مقدس ألآماءا

كرّم الله وجهه عن سجود *** لسواه تذللاً واختذاءا

ما نبا السيف في يديه ولم ينشر *** لغير الفتح المبين لواءا

كل آماله تروع جلالاً *** كل أعماله تشع رواءا(2)

واذا كان الشعر بالعلماء يزري كما يدعي بعضهم فإنه شرف وارتقاء حين يُقال في مدح أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) . وهذا العلامة الكبير آية الله الشيخ محمد طه نجف يبتهج بالعيد الذي تمت به نعمة الله بولاية الوصي (عليه السلام) - عيد الغدير – وهذه بعض الأبيات المنتخبة من قصيدته الميمية :

تمام الحج أن تقف المطايا *** على أرض بها النبأ العظيمُ

ص: 216


1- المصدر السابق 4 : 70-71 .
2- موسوعة شعراء الغدير 4 : 414-416

وصي محمد وأخيه منه *** كهارون يقاس به الكليم

ونفس محمد بصريح قول *** المهيمن والسراط المستقيم

وباب العلم من طه وهذا *** يفيدك كل مكرمة تروم

وسيف الله في بدر وأُحد *** وغيرهما وناصره القويم

وصرّح في غداة غدير خم *** بمر الحق لو أصغى الظلوم

وميّزه النبي بفتح باب *** لمسجده وذا رمز وسيم(1)

وعلى الرغم من عظم مشاغل المرجع الأعلى للشيعة الامامية في العالم – في وقته – آية الله العظمى السيد ( أبو القاسم الخوئي ) فإنه يستجيب لعواطفه وتأثره بفضيلة المناسبة الكبرى في ذكرى يوم الولاية , فينظم أُرجوزة مطوّلة في أهل البيت (عليهم السلام) , منها هذه الأبيات المتفرقة :

الحمد لله العلي الواحد *** مكوّن الكون وأقوى شاهد

أرجو الهي صانعي وخالقي *** ومالكي وملجئي ورازقي

غفران ذنبي فهو أهل العفو *** ما كان من عمد أتى أو سهو

نبيّنا للكون كان غاية *** من مبدأ يسري إلى النهاية

نبيّنا أفضل من كل الورى *** من كل مخلوق يُرى أو لا يُرى

قال النبي قوله قد أشتهر *** حب علي للأناس مختبر

يحبه المؤمن بالله التقي *** يبغضه المنافق الشر الشقي

ما عرف الله سواك وأنا *** تعرفني انت ومن أنشأنا

انت وزيري وأميرُ أُمتي *** على العصاة المارقين حجتي

ولاية الوصي عنها يُسأل *** قابلُها ممن سواه يفصل

ذا فائز مسكنه الرضوان *** وخاسر ذاك له النيران

ص: 217


1- المصدر السابق 4 : 81 .

هذا علي والغدير يشهد *** بأنه المولى الإمام الأوحد(1)

وحين تنضج الحروف , يحلو معتصرها , وتثمرنظماً تزداد بأنغامه نبضات القلوب الحية حيوية , وتتدفق دموع الفرح لمثل هذه اللآلئ التي تجود بها قريحة الشاعر المبدع السيد جابر بن السيد محمد الجابري الشهير ب- ( مدين الموسوي ) فمن غديريته هذه الأبيات المنتخبة .

أفض في يدي من كل قافية بحرا *** لعل بحور الشعر تلهمني شعرا

وردَّ إلى عيني رؤاها فانها *** بحبك لا زالت مغيّبة سكرى

وفك يدي من أسرها فيك ساعة *** فما رغبت الاّ على يدك الأسرا

لأنك ملء الروح تهتز كالرؤى *** إذا جنحت يوماً تعود بها دهرا

أمير بيوت الوحي لست مغالياً *** ولا ناطقاً زهواً ولا قائلاً هجرا

وقفت أُجيل الفكر حولك معجزاً *** وسحراً تداعى فيك كي يبطل السحرا

فلوّح لي في كل أفق غمرته *** بنورك إعجاز وغيب لي غمرا

توحدتَ في ذات الرسول فكنتها *** لتملأ من صدر الرسول بك الصدرا

ففي يوم بدر أظلم الكون حولها *** فكان لها ليلاً وكنت به بدرا

وفي يوم أُحد ماجت الارض تحتها *** ودارت رحاها كي تكون لها قطرا

ويوم حنين والرجال تناهبت *** خطاها رمال البيد واجمة حيرى

وقفت لها طوداً تباعد همّه *** ويمناه عند الروع تسبقها اليسرى

لقد صوّبت فيك السماء سهامها *** وكنت لمرماها كنانتها البكرا

وأُسري في علياك مجداً مخلداً *** إلى آخر الدنيا فسبحان من أسرى

تجلّى لنا يوم الغدير رسالة *** مكتمة لم ترو حرفاً ولا سطرا

تكالبت الدنيا عليه مغيظة *** تضيق به خوفاً وتطعنه غدرا

كما الشمس تعطيها السحائب هالة *** فتنشرها نوراً وتمنحها طهرا

ص: 218


1- المصدر السابق 5 : 345 – 347 .

تجملت الصحراء تلبس عريها *** وليس من الصحراء أنقى اذا تعرى

لتحضر عرس الوحي يحمل صوته *** بلاغ رسول تمم النعمة الكبرى(1)

ولا يختلف أتباع الحق وإنْ اختلفوا بالعقائد والجنسيات , في أن علي بن ابي طالب رجل الكمال والمثال بعد الرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) فلا يتأخرون في إبداء آرائهم ومشاعرهم في المناسبات المتعلقة بأمير المؤمنين (عليه السلام) , ومنهم الوزير الشاعر اللبناني – المسيحي – جوزيف الهاشم الملقب باسم زغلول الدامور , يتحفنا ببائيته في مدح الامام (عليه السلام) وهذه بعض الابيات منها :

نعمَ العلي ونعم الاسم واللقبُ *** يا من به يشرئب الأصل والنسبُ

الباذخان جناح الشمس ظلهما *** والهاشميان أُمٌ حرّة وأب

لا قبل لا بعد في البيت الحرام شدا *** طفل ولا اعتز الاّ باسمه رجب

تلقف الدين سبّاقا يؤرجه *** صدر النبي وبوح الوحي يكتسب

سيف الجهاد فتى لولاه ما خفقت *** لدعوة الله رايات ولا قطب

إنْ برّدت هدنة التنزيل ساعدَه *** كان القتال على التاويل والغلب

لو كان عاصر عيسى في مسيرته *** ومريم في خطى الآلام تنتحب

لثار كالرعد يهوي ذوالفقار على *** أعناق بيلاطس النبطي ومن صلبوا

ما كان درب ولا جلد وجلجلة *** ولا صليب ولا صَلب ولا خشب

تجسدت كل أوصاف الكمال به *** في ومض ساعده الإعصار والعطب

الصفح والعفو بعض من شمائله *** وبعضه البر أم من بعضه الأدب

هو الوصي على الميثاق مؤتمن *** على تراث نبي الله منتدب

هو الخليفة ما شأن السقيفة إن *** طغت على أهلها الأهواء والرتب(2)

ص: 219


1- المصدر السابق 6 : 26 – 28 .
2- المصدر السابق 6 : 58-59 .

هو الخليفة ما شأن السقيفة إن *** طغت على أهلها الأهواء والرتب(1)

أما الشاعر العراقي الكبير –الصابئي الديانة – عبد الرزاق عبد الواحد , يقول في قصيدته (( في رحاب النجف )) ومَن شرّف النجف بمرقده الطاهر , هذه الأبيات المختارة :

شرف ليس بعده شرف *** إنّك الآن عرشك النجف

أيها المستفَزُ أجنحة *** في رحاب الكرار ترتجفُ

بجناحيكَ أنَّ خفقَهما *** لعليِّ بالحب يعترف

إن تكن قد وقفت مرتبكاً *** فالنبيّون ههنا وقفوا

وتواضع فكل أنمُلة *** ههنا فوقها دم يكفُ

من عليٍّ لليوم هاطلةٌ *** تحتها الراسيات تنخسف

تربة الأنبياء يعصمها *** أنها الآن فوق ما أصف

كلّما أُمطرتْ زهت رُطباً *** بينما حملُ غيرها حشف

سيدي يا علي معذرة *** أنا من راحيتك أرتشف

أبلغُ القول أنت سيّدُه *** والورى من نداك تغترف

فاذا ما وقفت مضطرباً *** فاعذرن وقفتي التي أقف

يا أبن عمِّ النبي لطفك بي *** وأجزني , فالليل ينتصف

وانا لم أزل أرى قلمي *** ويدي والسطور ترتجف

فأقلني إذا كبوتُ هنا *** من خشوعي , وتَعذُرُ النجف(2)

إنّ ما ذكرناه من شواهد شعرية تناولت ذكر فضائل أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وسيرته الجهادية ومراتبه المعرفية , والإشارة إلى

ص: 220


1- المصدر السابق 6 : 58-59 .
2- شبكة المعلومات العالمية – الانترنيت -

يوم ولايته الخالد – يوم الغدير – لا تعدو أن تكون أمثلة لما سجّله آلاف الشعراء لآلاف القصائد والأراجيز عبر القرون الخمسة عشر , ولو نظرنا إلى ما صدر عن شعراء القرن الحالي المعاصرين فقط لوجدنا شعراً يملأ الموسوعات , ولكن هدفنا من ذلك هو التذكير بالنماذج التي تناولت أهم الأمور وأقربها إلى الهدف الذي توخيناه . وللتخلص من إشكالية الترجيح والإنتقاء من الكم الهائل الموجود إقتصرنا على رموز محددة أردناها تمثل :- المرجعية العليا وشاعرية شبابية متفوقة ونصّين لشاعرين من غير امة الإسلام .

المؤلف والشعر - في رحاب الروضة الحيدرية - أبيات منتخبة

في عرين الوصي يرتبك اللسن *** وتشدو من رحمها الهمهمات

وبابوابه بكل خشوع *** تسجد الأُسد , تُخفض الهامات

فالمقام المهيب حضرة قدس *** وجلال تضوع منه العظات

قبّة شرّف الإله حماها *** ورواق تحيطه النيّرات

((من نضار صيغت بغير نظير)) *** جمّلتها مآذن فارعات

وبإيوانها الوجيه تباهى *** باب تبرٍ تجتازه الدُفعات

واحتواها صحن بسور عظيم *** شاهق لا تهزه العاصفات

كل ما فيه من صنيع وفنٍ *** وبناءٍ . روائع محكمات

والمرايا والآي في كل ركنٍ *** والهدايا في كنزها محصنات

يقدر الآخرون فعل مثيلٍ *** للجمادات , والشعوب بُناة

ص: 221

بيدَ أن الذي تعذر فعلاً *** هو سرٌ آثاره مشرقات

معجز خارق تجسَّد فيه *** لطف ربي وباركته الهداة

يغمر الزائرين نورٌ بهيٌ *** وتروّي الضمائرَ النفحات

وتعيش الجموع من زائريه *** لحظات أريجها بركات

حيث تبدو لهم معالم دين الله *** عيناً , وكل فعل صلاة

يتبارون ركّعاً وسجوداً *** ولوجه الإله تُهدى الهبات

وعلى القبر يطبعون شفاهاً *** ليس إلاّ للحق ذي القبلات

الدعا والبكاء بلسم داءٍ *** وجهات الضريح مستشفيات

يستجير الذي يهدده الجور *** بقبر الولي , حتى الطغاة

يقصد المذنبون حصن المروءات *** وكل تحيطه الأزمات

يا علي الصفات , النجف الاشرف *** تزهو بأُفقها الرايات

أنت شرفتها وصنت ثراها *** وبمثواك تُسعد الذكوات

وعلى رملها بقرب عليٍ *** يهنأ العيش بل ويحلو الممات

من ديار الإسلام قبل قرونٍ *** وإلى الآن تُجلب الأموات

إنّ وادي السلام مدرجة الناس *** إلى حيث تفرح الجنّات

سيّدي والحياة دار بلاءٍ *** وخليط تنتابه الشبهات

وجهالات فترةٍ وأماني *** رجّحتها سهواً لنا الشهوات

فأكلنا ومن موائد شتى *** فحلال , وبعضها أسحات

وبيوم الحساب نبقى أُسارى *** بالشفيع القسيم ترجى النجاة(1)

ص: 222


1- طالب علي الشرقي / حبات طلع – مجموعة شعرية ص105 – 108 .

المصادر

1- القرآن المجيد

2- ابن ابي الحديد - عز الدين عبد الحميد

شرح نهج البلاغة / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم . طبع دار أحياء الكتب العربية / عيسى البابي الحلبي ط2 1385ه- 1965م

3- ابن الأثير - عز الدين علي

الكامل في التاريخ / دار صادر – بيروت – 1385ه- 1965م .

4- ابن سعد - محمد ( الكاتب )

الطبقات الكبرى – طبعة ليدن 1332ه- منشورات النصر – طهران .

5- ابن شهر آشوب - محمد بن علي المازندراني

ص: 223

مناقب آل ابي طالب – المطبعة العلمية –قم-

6- ابن الصباغ - علي بن محمد بن احمد المالكي

الفصول المهمة في معرفة الأئمة / مط الحيدرية في النجف 1381ه- 1962م

7- ابن طاووس - علي بن موسى ( السيد )

اللهوف في قتلى الطفوف / منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف – 1385 ه 1965م .

8- ابن عبد ربة - شهاب الدين أحمد ( الأندلسي )

العقد الفريد – مط مصطفى أحمد / القاهرة 1353ه- 1935م .

9- ابن قتيبة - عبد الله بن مسلم الدينوري

الإمامة والسياسة / تحقيق طه محمد الزيني / مؤسسة الحلبي .

10- ابن منظور - محمد بن مكرَّم

لسان العرب – دار إحياء التراث العربي – بيروت ط3 1986م

11- ابن هشام عبد الملك الحميري

السيرة النبوية / مط مصطفى البابي الحلبي بمصر 1355ه- 1936 م .

12- الأديب - علي ( الدكتور )

منهج التربية عند الامام علي (عليه السلام) / مط الحيدرية– النجف 1387ه- 1967م .

13- الأصفهاني - ابو الفرج علي بن الحسين

مقاتل الطالبيين / مط الديواني – بغداد

ص: 224

1358ه- 1939 م .

14- آل ياسين - محمد حسن ( الشيخ )

نهج البلاغة لمن / دار الأنوار للمطبوعات – بغداد ط4 1397 ه- 1977 م .

15- الأميني - عبد الحسين ( الشيخ )

الغدير .. دار الكتاب العربي – بيروت – ط4 1397ه- 1977م

16- البراقي - حسين ( السيد )

تاريخ الكوفة / حققه السيد صادق بحر العلوم ط2 مط الحيدرية في النجف 1379ه- 1960م

17- بيضون - ابراهيم ( الدكتور )

الإمام علي في رؤية النهج ورواية التاريخ ط2 . الناشر : العتبة العلوية المقدسة 1433ه- 2012م .

18- جرداق - جورج سجعان

الامام علي صوت العدالة الانسانية / بيروت 1956م .

19- الجوهرجي - محمد صالح ( الحاج )

ضياء الصالحين / دار المصطفى – بيروت ط4 1432ه- 2011م .

20- الجويني - ابراهيم بن محمد

فرائد السمطين .. حققه الدكتور عبد المحسن الراوي ومحمد صادق تاج ط1 دار الجوادين – سورية 1429ه- 2008م .

21- الحساني - كريم جهاد و رسول كاظم عبد السادة

ص: 225

موسوعة شعراء الغدير ط1 – التعارف . الناشر : العتبة العلوية المقدسة 1431ه- 2010م .

22- الحكيم - حسن عيسى ( الدكتور )

الامام علي روح الاسلام الخالد ط1 – قم 1428ه- 2007م .

فاطمة الزهراء شهاب النبوة / مط شريعت بقم ط1 1430ه-

23- الحمامي - محمد علي ( السيد )

المطالعات في مختلف المؤلفات / مط الآداب – النجف – ط1 – 1384ه- 1964 م .

24- دخيّل - علي محمد علي ( الحاج )

الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) مط النعمان – النجف الاشرف .

25- الدينوري - احمد بن داود ابو حنيفة

الاخبار الطوال / ط1 القاهرة 1960م

26- السويدي - محمد امين البغدادي

سبائك الذهب .. مط الزهراء – الموصل 1984م .

27- السيوطي - جلال الدين عبد الرحمن

تاريخ الخلفاء / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد – مط المدني – القاهرة ط3 1383ه- 1964م .

28- الشرقاوي - عبد الرحمن

علي إمام المتقين / الناشر : العتبة العلوية المقدسة ط1 1433ه- 2012 م .

ص: 226

29- الشرقي - طالب علي

حبّات طلع – مجموعة شعرية / مط الأدباء – النجف ط1 2011م .

30- صاحب المدارك - السيد محمد

القصائد السبع العلويات لعبد الحميد بن أبي الحديد / دار الفكر بيروت 1374ه- 1955م.

31- الصغير - محمد حسين علي ( الدكتور )

موسوعة أهل البيت الحضارية – الامام علي –مؤسسة العارف ط1 1427ه- 2000م.

32- الطباطبائي - محمد حسين ( السيد )

الميزان في تفسير القرآن / مؤسسة الاعلميللمطبوعات – بيروت – ط1 1417 ه- 1997 م .

33- الطبري - محمد بن جرير

تاريخ الطبري / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم / دار المعارف بمصر 1966م .

34- العاملي - محسن الأمين ( السيد )

اعيان الشيعة / مط الاتفاق – دمشق

35- عبدُه - محمد ( الشيخ )

نهج البلاغة / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد – مط الاستقامة بمصر .

36- العقاد - عباس محمود

عبقرية الامام علي بدون تاريخ ومحل طبع

37- العمري - عبد الباقي

الترياق الفاروقي – ديوان شعر – ط2 مطبعة

ص: 227

النعمان – النجف 1384ه- 1964 م .

38- عنوز - صباح عباس ( الدكتور )

نهج البلاغة صوت الحقيقة ط1 دار المعمورة للطباعة – بغداد 1434ه- - 2013م

39- الفتلاوي - كاظم عبود

الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضى / الناشر مكتبة الروضة الحيدرية ط1 1426ه- 2005م .

40- الفرطوسي - صلاح مهدي ( الدكتور )

وما ادراك ما علي / الناشر العتبة العلوية المقدسة 1432ه- 2011م .

41- القرشي - باقر شريف ( الشيخ )

نظام الحكم والادارة في الاسلام / مط الأداب في النجف ط1 1386ه- 1966م .

42- القمي - عباس ( الشيخ )

مفاتيح الجنان / دار التعارف – بيروت – ط3 1424ه- 2003م .

43- القندوزي - سليمان ابراهيم

ينابيع المودة –اسلامبول– 1301ه-

44- كاشف الغطاء - محمد حسين ( الشيخ )

أصل الشيعة واصولها – منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف ط14 1385ه- 1965م .

45- كتّاني - سليمان

الامام علي نبراس ومتراس / الناشر العتبة

ص: 228

العلوية المقدسة ط2 1432ه- 2010م .

46- المجلسي - محمد باقر

بحار الأنوار / مط الاسلامية – طهران – 1389 ه-

47- محبوبة - مهدي ( الدكتور )

ملامح من عبقرية الامام / الناشر العتبة العلوية المقدسة 2012 .

48- مرزة - عبد الحليم حاتم

ابو طالب سيد المؤمنين / مكتب فيض للطباعة – ط1 1425ه- 2004م .

49- المسعودي - علي بن الحسين

التنبيه والإشراف / دار الصاوي – القاهرة 1357ه- 1938م .

50- المظفر - محمد رضا ( الشيخ )

عقائد الامامية / دار النعمان للطباعة في النجف الاشرف ط3 .

51- المظفر - عبد الواحد

قائد القوات العلوية مالك الأشتر / مط العلمية في النجف 1370ه- 1951م .

52- المفيد - محمد بن محمد بن النعمان ( الشيخ )

الإرشاد / مؤسسة الاعلمي للمطبوعات – بيروت ط1 1429ه- 2008م .

53- المقرّم - عبد الرزاق ( السيد )

مقتل الحسين – مؤسسة الخرسان للمطبوعات – بيروت 1426ه- 2007 م

ص: 229

54- الملاّ - فاضل عباس ( القاضي )

الامام علي ومنهجه في القضاء / الناشر : العتبة العلوية المقدسة ط1 1432ه- 2010م

55- المنقري - نصر بن مزاحم

وقعة صفّين / تحقيق عبد السلام محمد هارون / المؤسسة العربية الحديثة للطبع – القاهرة ط2 1382ه- .

56- الميلاني - هاشم ( السيد )

نهج البلاغة / مط التعارف ط3 1431ه- 2010م .

57- هويدي - محمد

التفسير المعين للواعظين والمتعظين – بهامش المصحف المفسر -

58- الهتمي - ابن حجر

الصواعق المحرقة – طبع طهران

59- هيفا - راجي أنور

الامام علي في الفكر المسيحي / الناشر العتبة العلوية ط4 1433ه- 2012م .

60- اليعقوبي - ابن واضح

تاريخ اليعقوبي / المكتبة الحيدرية– النجف 1384ه- 1964م .

مجلة الاصالة – د. حسن الحكيم - مؤسسة التراث النجفي العدد المزدوج 18- 20

مجلة الاعتدال النجفية– البلاغي – السنة 5 العدد 4

ص: 230

مجلة الشقائق / اتحاد الأدباء والكتاب – النجف – 1998م .

مجلة ينابيع / مؤسسة الحكمة الثقافية – النجف العدد 17 .

المحتوى

الإهداء ........................................................ 2

المقدمة ......................................................... 3

التعريف بنشأة الامام عليه السلام

الولادة .................................................. 5

التسمية ................................................ 6

النسب ................................................. 7

علي (عليه السلام) في بيت والديه ............................... 8

ص: 231

علي (ع)في بيت محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) ........................... 12

علي في مدرسة الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) الابتدائية ............................ 14

إسلام علي (ع).......................................... 15

دور الإمام علي عليه السلام في مكة قبل الهجرة ......................... 21

علي عليه السلام في المدينة المنورة – الجهاد المسلح –.................... 23

علي عليه السلام والامامة ..................................................39

علي (عليه السلام) ومنصب الخلافة ........................................ 45

معركة الجمل .............................................. 49

معركة صفين ........................................... 51

الحرب الباردة بين علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعاوية بن أبي سفيان .. 53

معاوية وظاهرة التآمر على حياة الخصوم............................ 64

علي (عليه السلام) في عالم التفوّق .......................................... 70

من صفات الكمال العلوي

الإيمان الكامل ............................................. 81

ص: 232

القوة الخارقة ................................................ 83

الشجاعة المطلقة ............................................ 85

العلم التام ................................................... 85

وضوح ا لمنهج ............................................... 88

صفات اخرى متغلبة

السخاء ..................................................... 90

المروءة في الحرب .......................................... 91

ذكاؤه ....................................................... 92

الزهد والقناعة ............................................... 93

الفصاحة والبلاغة ........................................... 95

القضاء .................................................. 98

امتيازات لعلي وحده

زواج علي (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام) ......................... 106

علي وحده يكلّم النبي (صلی الله علیه و آله وسلم) عندما يغضب .................. 107

باب علي في المسجد لم يسد .............................. 108

ص: 233

لا يؤدي عن النبي غير علي (ع)........................ 108

راية رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم) مع علي (ع)......................... 109

قسيم الجنة والنار ......................................... 109

من كنت مولاه فعلي مولاه ................................. 110

الاثار العلوية في العلوم الإنسانية ................................. 114

الأول بعد الرسول (صلی الله علیه و آله وسلم) ............................................ 121

المساواة عند علي (عليه السلام) ترجمة للعدل الإلهي على الأرض .......... 123

الإمام علي (عليه السلام) والحرّيات ........................................ 126

الإمام علي (ع)والولاة ............................................ 130

من وصايا الإمام إلى عمّاله ........................................ 135

مواعظ لأمير المؤمنين (ع)......................................... 141

مع عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر ................................ 145

إطلالة على كتاب نهج البلاغة ................................... 151

ظاهرة الوصف وكشف المجهول – في الخالق والمخلوق – في نهج البلاغة157

ص: 234

الإمام علي (عليه السلام) والأخبار المستقبلية ............................... 162

ومضات تربوية عند الإمام علي (ع)............................... 168

الإمام (عليه السلام) والدعاء ................................................. 173

الإمام علي (عليه السلام) والشعر ............................................ 180

على هامة التاريخ ................................................... 188

الشهادة والخلود ..................................................... 194

الامام علي عليه السلام في سطور.......................................... 196

الكنوز الشعرية في السيرة العلوية .................................... 199

المؤلف والشعر – في رحاب الروضة الحيدرية–.................... 220

المصادر ........................................................... 222

ص: 235

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.